لم يكن يتصور أحد أن جهيمان العتيبي الذي أطلق على نفسه المهدي، ودخل وأتباعه البيت الحرام، مدججا بأعتى الأسلحة، ليفعل تلك الجريمة؛ لولا تواترها ومشاهدها التي لا تزال حاضرة إلى اليوم، لكن الأكثر سوءا مما ارتكبه جهيمان كان قد وقع قبل ذلك بألف عام في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي حين انتهكت عصابة من المجرمين البيت الحرام وقتلوا أهله وسرقوا الحجر الأسود دون أن يرفّ لهم جفن، أولئك هم القرامطة. فمن هم القرامطة الذين فعلوا ذلك؟ وكيف ظهروا على مسرح أحداث التاريخ الإسلامي؟ وما أبرز أفكارهم؟ ولماذا وقفت أمامهم الجيوش عاجزة عن قمعهم ووأد حركتهم؟ ثم لماذا دخلوا البيت الحرام منتهكين حرمته ومقتّلين أهله وعبّاده؟!
الخروج من رحم التشيع!
باستشهاد الصحابي الجليل الحسين بن علي -رضي الله عنه- في موقعة كربلاء، ظهرت حركة قوية تؤيد آل البيت ورجالاتهم ضد السلطة الأموية والعباسية فيما بعد، لقد رأى هؤلاء أن العلويين هم الأحق بالخلافة وتولية أمر المؤمنين، وسرعان ما أُطلق على هذه العُصبة من الأنصار "شيعة آل البيت".
قاد سلسلة من أبناء وأحفاد علي بن أبي طالب قيادة الحركة العلوية، وسرعان ما اعتقد في هؤلاء طائفة تقول بإمامتهم، ويرون أن عليا بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد أوصى له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنص، والأوصياء من بعده أبناؤه من فاطمة بنت النبي، ثم انقسموا على أنفسهم فرقا كثيرة كان أبرزهم "الاثنا عشرية" هؤلاء الذين يرون أن الخلافة بعد الحسين بن علي -رضي الله عنه- لأحد عشر ابنا وحفيدا معلومين بأسمائهم وأشخاصهم وصفاتهم، تبدأ بالحسين ومن بعده محمد الباقر ثم جعفر الصادق ثم موسى الكاظم ثم محمد الجواد ثم علي الهادي ثم الحسن العسكري ثم محمد بن الحسن العسكري وهو الإمام الغائب عندهم، الذي يعتقدون "رجعته".
ومن الاثنا عشرية انبثق الإسماعيلية الذي يرون أن الأحق بالإمامة ليس موسى الكاظم بن جعفر الصادق وإنما ابنه الآخر إسماعيل بن جعفر الصادق، ورأوا أن ذلك كان بنصّ من أبيه جعفر ولكنه مات قبله، ومن هنا تتحول سلسلة الأئمة إلى أبناء إسماعيل بن جعفر الصادق بدلا من موسى الكاظم وعقبه، وكان من أحفاده عبد الله المهدي الذي ظهر في شمال أفريقيا وملك المغرب وتوسع حتى مصر مُنشئا الدولة الفاطمية[1].
وجنبا إلى جنب عمل القرامطة الأوائل وعلى رأسهم زعيمهم الذي تُنسب إليه هذه الطائفة وهو حمدان القرمطي مع الإسماعيلية، داعيا إليها، ومؤمنا بها، وكانت الحركة الإسماعيلية تسير وفق مخطط دعوي دقيق، وتنظيم هرمي على غاية من التعقيد والسرية لضمان عدم انكشافها أمام السلطات العباسية التي كانت تتبع أي حركة علوية يُشم من ورائها الاشتباه في إمكانية قيامها بمعارضة مسلحة.
واتخذوا من مدينة واسط العراقية مقرا لهم في بادئ الأمر، حيث كان جوها ملائما لنمو الدعوة وانتشارها، وكان جل أهلها من الفقراء وممن وقعت عليهم مظالم من ولاة الحكم العباسي، ومن هنا استجاب أكثرهم إلى القرامطة، وانخرطوا في صفوفهم، لكن حمدان القرمطي عمد إلى بناء مركز لدعوته قرب مدينة الكوفة، المعقل الأهم والأكبر، والمحضن الأشهر للحركات الشيعية منذ الدولة الأموية وإلى ذلك الحين، فسمّاه "دار الهجرة"، واتخذه منطلقا لبثّ دعوته، ومركزا تتجمع فيه العناصر التي اقتنعت بنظرته، واعتمدت هذه الحركة المنظمة السرية على عنصر المال في تقوية مركزها، حيث فرض حمدان القرمطي على أتباعه ضرائب ثابتة، استطاع من خلالها تجنيد وجلب المزيد من الأتباع والمؤمنين بأفكاره.
استطاعت الدولة العباسية أن تقبض على بعض أتباع القرمطي، ورأت فيهم خطرا شديدا على الأمن العام في العراق، فضلا عن انتشار دعوتهم وأفكارهم المتطرفة، وأرادت السلطات وعلى رأسها الخليفة نفسه أن يقفوا على إيمان هؤلاء وإلامَ يرمون، لكن أبرزت الاستجوابات أن القرامطة كانوا يؤمنون إلى النهاية بأفكارهم وأيديولوجيتهم دون إعلان لها أمام السلطات، وقد استغلوا ثورة الزنج التي قامت في سواد العراق وهي المناطق التي غلب فيها العمل الفلاحي والزراعي، وقام فيها الزنج أو العبيد القادم من أفريقيا واستقروا في هذه المناطق تحت تأثير بعض الدعاة بالخروج والمطالبة بحقوقهم، فاستغل القرامطة هذه الثورة المسلحة التي استمرت 15 عاما متصلة، فوسّعوا فيها دائرة دعوتهم، واستقطبوا الآلاف إلى أفكارهم، حتى إن بعض الناس جاءوا إلى بغداد محذرين الخلافة من خطورة هذه الدعوة التي كانت تتخذ منحى أشد تطرفا كلما تقادم العهد بها.
فيروي الطبري في تاريخه أن مجموعة من أهل الكوفة قدموا إلى بغداد ليحذّروا من خطورة القرامطة، وقالوا في بيان شهادتهم إن القرامطة "أحدثوا دينا غير الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمة محمد"، لكن السلطات العباسية لم تسمع لهم، بل ثبت أن أحد ولاة غربي العراق آنذاك كان يأخذ من القرامطة دينارا على كل شخص سنويا، مما جعله يغض الطرف عنهم[2].
التمدد العسكري للقرامطة
قسّم حمدان القرمطي دعوته، وجعل صهره عبدان أداته الرئيسية، والعقل الذي يُنظّر للفكرة القرمطية، فألّف معظم كتب الفرقة المقدّسة، ولكون عبدان كان الرأس المدبر للأفكار والتنظيم، فقد عيّن رجلين في منطقتين كانتا تشهدان استقطابا وحراكا كبيرا لأفكار القرامطة، فكان الأول زكرويه الذي عُيّن داعي القرامطة الأكبر في غرب العراق، وأما الرجل الثاني فكان أبو سعيد الجنابي في منطقة فارس الجنوبية، وبقي قرمط نفسه في منطقة قريبة من بغداد تأتيه أخبار العاصمة، كما تأتيه أخبار الإسماعيلية في بلاد فارس فيعمل ويُخطط بناء على ما يأتيه من أخبار من كلتا الجهتين.
امتد نشاط القرامطة بعد وفاة الخليفة العباسي القوي المعتضد بالله سنة 289هـ إلى الشام، ثم إلى العراق، وفي تلك الأثناء كان داعي القرامطة في بلاد فارس الجنوبية أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي أكثر الدعاة نشاطا في دعوته، وقد لعب على وتر القومية لعبا أدى إلى نجاح كبير، فقد كان ينشر بين الناس أن الله يمقت العرب لأنهم قتلوا الحسين، وأنه يحب رعايا الأكاسرة وخلافاءهم؛ لأنهم الوحيدون الذين قاموا لنصرة حقوق الأئمة من آل البيت في الخلافة، وأن هناك بعض الأخطاء في الكثير من أوامر الأنبياء، وقد أثرت هذه الأفكار في الفرس تأثيرا سريعا وواسعا، وبينما هو في تلك الحالة من الانتشار بين أهل فارس إذ داهمت الشرطة العباسية مقاره، واستولت على أمواله، ونجا الرجل بأعجوبة من بين أيديهم، وقد تزامن ذلك مع إرسال حمدان قرمط إليه يطلبه للمثول بين يديه في العراق[3].
اجتمع الرجلان الخطيران في كلواذى قرب بغداد لأول مرة، وحين جالسَ حمدان قرمط أبا سعيد الجنابي رأى فيه ذكاء وفطنة وإخلاصا للدعوة، واستقر الرأي أن يتجه صوب البحرين التي تعني الآن شرق الجزيرة العربية كلها من جنوب البصرة حتى عُمان، فقد كانت الدعوة تنتشر بين قطاع كبير من البدو ومن بقايا ثورة الزنج الذين آثروا الهروب إلى صحراء الجزيرة العربية بعيدا عن جيوش العباسيين، لذا كانت الأرض ممهدة للجنابي، وكان نجاحه باهرا، بل إنه سرعان ما تزوج بابنة رجل مرموق في تلك المنطقة اسمه الحسن بن سنبر، وكان لقوته ومكانته الاجتماعية أثرها في انتشار الدعوة القرمطية بين القوم في تلك المناطق، وما جاء العام 286هـ إلا وكان أبو سعيد الجنابي مسيطرا على معظم بلاد البحرين، واستولى على القطيف، وبدأ الجنابي يستخدم منذ تلك اللحظة القوة المسلحة في إجبار القرى على الطاعة له، يقول الطبري في ذلك:
"وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبى سعيد الجنابى بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة، وكان خروجه -فيما ذكر- في أول هذه السنة (288هـ)، وكثُر أصحابه في جُمادى الآخرة، وقوي أمرُه، فقتل مَن حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يُقال له القطيف، بينه وبين البصره مراحل، فقَتل من بها"[4].
وبسبب هذه الأخبار الخطيرة أرسل معاون البصرة والمناطق التابعة لها إلى السلطات العباسية طالبا تعزيز وحماية مدينة البصرة، وبناء سور جديد قوي، فجاءته الموافقة على ذلك، وأنفق على بناء هذا السور مبلغا كبيرا كما روى الطبري في تاريخه.
على الفور اجتمع الخليفة العباسي المعتضد بالله مع كبار رجاله وأمرائه وانتهى الحال إلى إرسال فرقة عسكرية مدعومة بعدد من المتطوعين تخرج من مدينة البصرة في الجنوب العراقي، على رأسها عباس بن عمرو الغنوي، لمواجهة أبي العباس الجنابي القرمطي وسحق حركته قبل استفحالها، لكن قوات العباسيين بقيادة الغنوي انهزمت بصورة مفجعة، وقتل جُلّ من اشترك فيها، بل إن قائد الحملة العسكرية الغنوي وقع في الأسر، وفي نهاية الأمر أفرج الجنابي عنه وحمّله رسالة فيها من التهديد والوعيد إلى الخليفة المعتضد في بغداد!
كانت هذه الهزيمة المفجعة من أقوى أسباب تقاعس العباسيين عن إخراج حملات عسكرية أخرى صوب شرق الجزيرة العربية، وتُرك شأن هذه المنطقة لأبنائها يدافعون عنها، لكن خطر القرامطة كان يستفحل كل يوم، وأخيرا في العام 290هـ قطع الجنابي عن منطقة هجر "قطر" المياه، واستطاع السيطرة عليها، ونزل فيمن لم يقبل دعوته وينحز إليه بالسيف قتلا وتعذيبا، وفي نهاية المطاف تم تخريب المدينة وهدمها، والانتقال إلى الأحساء لتكون العاصمة الجديدة للقرامطة في شرق الجزيرة العربية[5].
وبينما أبو سعيد الجنابي يوسع من نفوذ القرامطة في الأحساء والبحرين وهجر، فإن الفرع الآخر من القرامطة في غرب العراق كانوا في حالة نشاط وتوسع، بل دخلوا في مواجهة مسلحة مع بعض الولاة العباسيين، وانتصروا عليهم في بادئ الأمر، وقتلوا كثيرا من العسكر العباسي، لكن سرعان ما هزمهم العباسيون وقتلوا كثيرا من أمرائهم وكبارهم، واستطاعوا أسر البقية منهم وكان منهم رجل مشهور اسمه أبو الفوارس الذي حكم عليه قضاة الدولة بالإعدام، وقد وعدَ الجميع بأنه سيعود بعد أربعين يوما من مقتله، الأمر الذي سبّب شغب واستثارة العامة في بغداد.
يقول المسعودي: "فكان يجتمعُ في كل يوم خلائق من العوام تحت خشبته، ويحصون الأيام، ويقتتلون ويتناظرون في الطرق في ذلك، فلما تمت الأربعون يوما وقد كان كثر لغطهم، واجتمعوا فكان بعضهم يقول هذا جسده، ويقول آخر قد مرّ، وإنما السلطان قتل رجلا آخر وصلبه موضعه لكي لا تفتتن الناس، وكثر تنازع الناس حتى نودي بتفريقهم"[6].
لم يتوقف نشاط القرامطة في العراق وشرق الجزيرة العربية، بل امتد حتى بادية الشام وعمق بلاد الشام نفسها حين هزموا واليها طغج الإخشيد سنة 289هـ وكادوا يستولون على دمشق بعد حصار طال، ثم استطاعوا في نهاية الأمر السيطرة بالقوة المسلحة الغاشمة على كلٍّ من حماة ومعرّة النعمان وبعلبك وسلمية، وفي سلمية، معقل الدعوة الإسماعيلية، المدينة التي خرج منها عبيد الله المهدي الذي تختلف الروايات في نسبه ما بين قائل إنه من أحفاد جعفر الصادق وبين قائل إنه مُدّعٍ، في هذا المعقل الإسماعيلي التاريخي أنزل القرامطة جام غضبهم وسخطهم على أهل المدينة كما أظهروا مدى وحشيتهم في المدن الشامية الأخرى.
وفي هذه الوحشية يقول الطبري المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث: "سار منها (القرمطي) إلى حماة ومعرّة النعمان وغيرهما، فقتل أهلها، وقتل النساء والأطفال، ثم سار إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها حتى لم يبقَ منهم -فيما قيل- إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فحاربه أهلها ومنعوه الدخول، ثم وادعهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكان بها منهم جماعة فقتلهم، ثم ثنّى بأهل سلمية فقتلهم أجمعين. ثم قتل البهائم، ثم قتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها، وليس بها عين تطرف -فيما قيل- وسار فيما حوالي ذلك من القرى يقتل ويسبي ويحرق ويخيف السبيل"[7].
ويأتي الطبري بقصص مأساوية على فظائع وجرائم القرامطة في تلك الأوقات، فقد تطور مذهبهم وأصبح في نفسه دينا مغايرا للإسلام، حتى إن الطبري يروي أن ابنا دان بالاعتقاد القرمطي قد تبرّأ من أمه التي بحثت عنه طويلا ولأشهر كثيرة لأنها ظلت على الإسلام ولم تدخل في دين القرامطة على حد زعمه، بل يروي الطبري أيضا أن امرأة هاشمية من العلويين لم تسلم من فظائعهم فقد تناوب على اغتصابها والعيش معها أربعة من القرامطة حتى إذا حانت لحظة ولادتها قالت شاكية: "فأنا مُقيمة معهم أربعتُهم، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم"[8]!
وتؤكد هذه الحادثة وغيرها مما هو أفظع أن القرامطة كانوا يتوارون خلف التشيع الإسماعيلي، بل ينقل ابن الجوزي عن المؤرخين المعاصرين لهم أن زعيم القرامطة الثاني أبا طاهر الجنابي دخل الكوفة عدة مرات وبها قبر الإمام علي -رضي الله عنه-، "فما دخل إلى قبر عَليّ عليه السلام واجتاز بالحائر فما زار الحسين. وقد كانوا يمخرقون بالمهدي ويُوهمون أنه صاحب المغرب (الفاطميون)"[9].
ولخطورة القرامطة واعتقادهم المخالف للإسلام كلية ألّف الإمام ابن الجوزي رسالته الشهيرة "القرامطة" والتي يقول فيها: "اعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض "التشيع" وباطنه الكفر، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق لما يعترضها من الشبهات... هذا مبدأ دعوتهم، ثم إن غاية مقصدهم نقض الشرائع... وقد ثبت عنهم أنهم يقولون بإلهين قديمين... وكلهم أنكر القيامة.. ثم إنهم يعتقدون استباحة المحظورات، ورفع الحجر... وغرضهم هدم قوانين الشرع"[10].
وإذا كان القرامطة عاثوا فسادا في العراق موطن الخلافة العباسية وبلاد الشام وشرق الجزيرة العربية، قتلا واغتصابا وارتكابا للمجازر الجماعية، وهزموا كثيرا من الحملات العسكرية حتى من أشهر القادة، فإنه ما إن بدأ القرن الرابع الهجري إلا وتطورت أفكارهم ومعتقداتهم وخططهم العدوانية تجاه المسلمين إلى ما هو أشد وأفدح.
فقد بدأ الاتصال بين القرامطة من جانب والدولة الفاطمية الناشئة في المغرب العربي قبل الانتقال إلى مصر من جانب آخر، لكن في العام 300هـ وعلى حين غرة دخل أحد عبيد أبي سعيد بن بهرام الجنابي الفارسي عليه حين غرة، فقلته، وارتقى من بعده ابنه أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي، ومع ارتقائه لزعامة القرامطة في الجزيرة العربية تتوثق الصلات بين الفاطميين الإسماعيلية وبين القرامطة رغم الاختلاف في اعتقاد الأئمة عند كلٍّ منهما، لكن العداء المشترك للعباسيين جعلهم يدخلون في تحالف سري.
وكان التحالف الجديد شديد الخبث، صريح العداء، أراد منه كلٌّ من القرامطة والفاطميين تدنيس وإضعاف صورة العباسيين في المخيال السني الجمعي في كافة بقاع العالم الإسلامي، وقرروا ضرب هذه المكانة، وإظهارها بمظهر الضعف في أهم بقعة دينية للمسلمين كافة، في مكة المكرمة، وفي طريق الحجيج والمعتمرين، فبدءا من العام 312هـ، كانت أولى هجماتهم الكارثية على قوافل الحجاج والمعتمرين، حيث خرج ألف راجل وثمانمئة فارس قرمطي من البحرين متعرضين لأكبر قافلة للمعتمرين حينها، كانت تضم آلافا من الرجال والنساء والبضائع، وقدر شهود العيان أن القرامطة ذبحوا 2200 رجل و500 امرأة، وأخذوا الآخرين أسرى إلى هجر، أما الغنائم فقُدّرت بمليون دينار ذهبي فضلا عن غيرها، كما وأسقطوا شعار العباسيين في الحج حيث استولوا على العلم العباسي أو الشمسية[11]، وكانت أكبر إهانة توجّه للخلافة العباسية التي وقفت عاجزة مرة أخرى أمام مذبحة جماعية سال فيها الدم أنهارا في قلب الجزيرة العربية!
أرسل أبو طاهر الجنابي القرمطي رسالة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله يشترط عليه أن تتنازل الخلافة العباسية للقرامطة عن البصرة والأهواز في مقابل كف أيديهم عن الرعايا المسلمين السنة، وعن طرقهم ودمائهم وأموالهم، ولما كانت الرسالة إهانة في ذاتها للخليفة العباسي أعظم شخصية دينية وسياسية في ذلك الوقت، فإنه لم يكتب للقرمطي جوابا عن هذه الإهانة، في الوقت الذي بدأ الرأي العام في العاصمة بغداد يعلن سخطه على تقاعس الوزير ابن الفرات الذي لقبوه بـ"القرمطي الكبير" استهانة وسخرية[12]، الأمر الذي اضطر العباسيين إلى إعداد جيش ضخم بقيادة القائد العسكري مؤنس التركي فتوجه ناحية الكوفة ثم استقر في نهاية المطاف في واسط ليكون قريبا من البصرة والكوفة وبغداد.
الاعتداء الإجرامي على بيت الله وحجّاجه!
استمر هجوم القرامطة على أطراف مكة، وطرق الحج القادمة من العراق والشام وغيرها، الأمر الذي أثّر بالسلب في أعداد الحجاج القادمين، وعاما بعد آخر بدأ عدد الحجاج والمعتمرين يقل، وتهاوت صورة العباسيين أكثر وأكثر عند عموم الناس، وفي عام 317هـ أفتى كثير من العلماء ببطلان الحج حماية للأنفس والأعراض[13]، حتى جاءت الطامة الكبرى في العام نفسه، فقرر أبو طاهر القرمطي زعيمهم أن يدخلوا مكة ذاتها، ويفعلوا بها ما يحلو لهم!
على مشارف مكة خرج واليها ابن محلب مع عدد من أعيانها لمقابلة القرمطي وجيشه طالبين منهم الابتعاد عن المدينة المقدسة بصورة سلمية، لكن القرمطي عاجلهم بالسيف فقتلهم جميعا، ثم اتجه القرمطي رأسا على ظهر فرسه راكبا إلى المسجد الحرام فدخله بعساكره، وهناك تشبّث الحجاج والعُبّاد والشيوخ والنساء بغطاء الكعبة المشرفة، وفي وسط هذا التدافع البشري في موسم الحج كنتَ ترى جنود أبي طاهر الشرسين يقتلون ويدوسون كل شيء ببربرية مفجعة، ويصيحون بضحاياهم في سخرية ووحشية: "يا حمير! أليس قلتُم في هذا البيت مَن دخله كان آمنا؟ أين حُرمته الآن"[14]!
ويعلق ابن الجوزي وغيره من المفسّرين على قوله تعالى: "من دخَله كان آمنا" أي من دخل المسجد الحرام فعلى القائمين على هذا البيت تأمين الزوّار والحجّاج والمعتمرين والعمل على راحتهم وعدم التعرض لهم، وقيل آمنا من النار[15]. وقد انتشر نهب القرامطة، وراحوا يقتلون الناس في كل مكان داخل الحرم وفي طرقات وشوارع مكة المشرفة حتى امتلأ البلد الحرام بالجثث، فأمر القرمطي أتباعه بدفن القتلى في ساحة الحرام، وإلقاء البقية في بئر زمزم، ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل إن أبا طاهر القرمطي اعتبر الكعبة المشرفة والبيت الحرام والطواف به مثل عبادة للأوثان والأصنام، وكان يوبّخ من يقتله من المسلمين بهذا الكلام قبل قتله، وفوق ذلك أصعدَ رجلا من أتباعه إلى ظهر الكعبة لينزع عنها ميزاب، ثم نزع عنها لباسها وستارها، وقلع باب الكعبة وأخذه، ثم قرر في نهاية الأمر أن يأخذ الحجر الأسود ويقتلعه من مكانه قبل الرحيل[16]!
ظل الحجر الأسود في حوزة القرامطة أكثر من عشرين سنة كاملة، بلغوا فيها أوج قوتهم، فقد ضموا إليهم بلاد عُمان وهاجموا الكوفة والبصرة مرارا، وكانت هزيمة مذلة للعباسيين، وأكبر إهانة للإسلام في أحد أركانه، ولم يقو العباسيون على فعل شيء أمام هذا الإجرام والبربرية القرمطية، وقرروا معهم صلحا مقابل دفع فدية سنوية هائلة تُقدّر بـ 120 ألف دينار ذهبي، وفي عام 337هـ وبعد وساطة شاقة، ودفع أموال هائلة استلم العباسيون الحجر الأسود وأرجعوه إلى مكانه مرة أخرى!
في نهاية المطاف سقط القرامطة من جراء انكماشهم الداخلي، وارتحال الكثيرين منهم إلى إيران، وفي منتصف القرن الخامس استطاع العوينيون وبعض القبائل العربية الموالية للعباسيين والسلاجقة هزيمة القرامطة ودحرهم عن إقليم الأحساء والبحرين، بعدما يقرب من قرنين ذاق الناس فيها أفظع الجرائم والمذابح التي ارتُكبت باسم الأفكار المتطرفة في العصر الإسلامي الوسيط!
الجزيرة