صورة تاريخية من نواكشوط / البروفيسور عبد الودود ولد الشيخ

ثلاثاء, 23/08/2016 - 09:15

من المعروف أنه يوجد تعارضٌ بنيوي في رؤية التاريخ والمجتمع عند ابن خلدون ( ت 1406). وبصفةٍ مبسطة يمكن تقديم الأمور على النحو التالي: عالم البدو والعالم المتقري.

عالم البدو (العمران البدوي) الوحشي الذي يعيش بصفةٍ قاسية جداً داخل النطاقات الصحراوية المعزولة ولاتطالها أي سلطةٍ للدولة ولاتتطلب حاجياتها الدّفاعية سو التضامن الأسري (العصبية) التي تحافظ عليه عن طريق سلامة أواصر القربى والنسب التي تشد ببعضها البعض الوحدات المكونة للمجتمع البدوي أما العالم المتقري أو عالم المدن (العمران الحضري) فهو يمتاز بالبحث عن وسائل الراحة والكماليات التي يوفرها تنوع موارد وحرف التجمعات الحضرية. وهذا العالم معرضٌ للاختلاط بأبشع معانيه. لذا يتخلى في آنٍ واحد عن “نقاء” أصوله والقدرة على استغلال الدرجة الكافية من العصبية للقيام بردود الفعل اللاّزمة عند تعرضه للاعتداء، وتحكمه روح الاستهلاك ويقع في ظل سلطة الأمير وأعوانه الذين يخضع لهم سكان المدن ليحموهم عند الحاجة. وهذا التعارض عند مؤلف المقدمة يدخل في إطار بناء تاريخي ونظري واسع يهدف إلى إظهار علاقات الإنتاج والرشوة مع العصبية والسلطة السياسية وبين التضامن الأسري والملك التي لا أود الاسترسال فيها هنا لأنني اعتقدُ أن الجذور الخلدونية ليست خارجة تماماً عن الموضوع  إذا ما استسردنا، ولو بصفةٍ مقتضبة، التحولات التي عرفته مدينة انواكشوط التي يعرف الجميع أنّ أغلبية سكانها منحدرون من البدو وأنهم يحتلون فيها مواقع ثقافية واقتصادية وسياسية ذات أهمية كبيرة. ويبقى الكثير من الأمور التي يجب التعرف عليها وتوضيحها من أجل تحديد الواقع الحضري الفعلي للعاصمة الموريتانية والروح الحضرية لهذه المدينة إذا لها في الواقع روح كما سنتساءل عن ذلك أسفله، والواقع أن علامات بداوة المدينة تبدو واضحةً وجلية ليس فقط بمتابعة ومواصلة الأنشطة الرعوية بها بل أيضاً باستمرارية وسيطرة بعض العقليات والأنماط البدوية التي تم تجاوزها والتخلي عنها.

وفي الأسطر القادمة وقبل أن نطيل في البحث عن الروح الحضرية لمدينة انواكشوط فإننا سنتوقف قليلاً على بعض العناصر البيليوغرافية عن هذه المدينة.

1- انواكشوط، استحداث سياسي

إن تاريخ التقري في شكله الخاص بالمدينة – أتردد في استخدام عبارة الحضري لأسبابٍ ستظهر فيما يأتي – يمكن أن يُقسّم في موريتانيا إلى فترتيْن:

 

– فترة ماقبل الاستعمار الفرنسي (1902-1900): كانت توجد، إضافةً إلى قوى مزارعي نهر السنيغال بعض مدن القوافل القديمة مثل ودان، وشنقيط، وتشيت، وولاته التي يمكن أن نحدد ظهورها فيما بين القرنين 12 و15. وهذه القريات الصحراوية التي لم يتجاوز سكانها بضع مئات من النسمات أنجبت عن طريق الحروب المدنية فيما بين القرن 18 والسنوات الأولى من القرن 19 تجمعات قروية أخرى (مثل أطار وتجكجة والنعمة) تأخذ تقريباً نفس أنماطها الحضرية والعمرانية.

ويمكن أن تضاف إلى هذه التجمعات القروية قرى الرشد وقصر البركة التي ظهرت خلال القرن 18  في ولاية تكانت. وباستثناء مدينة ولاته التي تأثرت بدولة مالي والمغرب (عن طريق تيمبوكتو) والتي يوجد بها نمط عيش حضري بما في الكلمة من معنىً (خاصة من ناحية الغذاء) فإن القرى الأخرى لايمكن الفصل بينها وبين عالم البدو المحيط بها، حتى أن سكانها لايعدلون عن مرافقة حيواناتهم لإنتجاع الكلأ في بعض فصول السنة. وهذه المدن القديمة ذات الطابع القبلي القوي – إن لم نقل مدن القبائل – لايوجد فيها يشبه الفضاء العمومي اللهم إلاّ إذا كان المسجد، فليس بها أسواق لأن كل منزلٍ هو في نفس الوقت مستودع ومتجر وهذا مايفسر التوجه التجاري العام الذي يُلاحظ اليوم في المجتمع البيظاني.

– فترة التجمعات  الموريتانية التي نشأت مع الاستقلال والتي تنتمي إليها مدينة انواكشوط القديمة المتمثلة في المركز الإداري الصغير الذي أسسه الرائد فرير جان سنة 1903 والذي بقي في الحقيقة موطناً بشرياً متواضعاً حتى تم تحويله سنة 1957 إلى عاصمةٍ سياسية لدولة موريتانيا التي ستحصل على الاستقلال في القريب العاجل.

وسنستعرض بصفةٍ مختصرة مراحل هذا المسار:

بعد وفاة كبولاني (أبرز رجالات الاستعمار في موريتانيا) سنة 1905 واجهت التوغل الفرنسي مقاومة شديدة أثرت على أمن مدينة نواكشوط وضواحيها فهجرت القلعة التي أسّس افرير جان سنة 1908 وتحولت الحامية التي كانت تحرسها إلى مدينة المذرذرة وكان ذلك آخر عهدٍ لها بالحياة. وتم تشييد موقعٍ جديد سنة 1929. وبقايا القلعة التي أجريت عليها ترميمات وأحيطت من الأعلى بجدارٍ مرتفع تعلوه الأسلاك الشائكة تستخدم اليوم سجناً للنساء والأطفال بمقاطعة لكصر على مسافةٍ تبعد حوالي 200 متراً شمال مقرب إقامة الوزير الأول.

إن ظهور النقل البري بواسطة السيارات في الثلاثينيات سيعطي لمركز نواكشوط دوراً جديداً إذ ستجعل منه شركة لاكومب (التي كانت تحتكر تقريباً في عموم التراب الموريتاني) مرآباً خلفياً لمايعرف آنذاك بالطريق الاستعمارية رقم 1 الرابط بين روصو وتندوف وهما طرفا الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا السوداء والمغرب. شهدت هذه الفترة ظهور أول البنايات في لكصر المتمثلة في بعض المنازل السكنية والمتاجر المبنية من الطيب والتي تتشكل بضاعتها أساساً من مستهلكات سكان البدو.

من المعروف عن مدينة نواكشوط في سنة 1950 لم يكن يسكن فيها أكثر من 500 أسرة لأن فيضانات استنائية دمرت أكثريّة مساكنها في هذه السنة، وذلك ماكان سبباً في إحصاء المنازل قصد تقديم المساعدة. ولم تخلف المياه وراءها إلاّ القلعة الصغيرة التي بنيت 1929 وتقرر بناء القرية في مكانٍ أكثر ارتفاعاً بالقرب من الكثيب الذي يحدها من الغرب. وتدخل الإدارة يفسر تخطيط المربعات “على الطريقة الأمريكية” لمدينة لكصر والذي يختلف جداً مع تشابك أزقة الكصور القديمة.

فعلى هذه البلد الصغيرة ستزرع، إن صحّ التعبير، عاصمة موريتانيا التي كانت تُدار شؤونها من المدينة السنغالية سان لويس. وقد أبدى المنتخبون الإقليميون الموريتانيون في المجلس العام لافريقيا الغربية الفرنسية، غداة الاستقلال سنة 1060، رغبتهم الكبيرة، في وجود عاصمةٍ لبلدهم على أرضه. وقد تم اختيار انواكشوط سنة 1957 بدلاً من مواقع أخرى كانت مرشحةً لهذه الوظيفة، فقد اقترحت مثلاً انواذيبو وروصو وغيرهما لكن انواكشوط  كانت تشكل الصلة بين شمال البلاد وجنوبها وتقع على شاطئ البحر. لذلك عُقد فيها تحت الخيمة أول اجتماع لمجلس الحكومة يوم 12 يونيو 1957.

والصعوبة الأساسية التي ظلت دائماً تمثل عاملاً يحد من الوجود البشري على الشاطئ المركزي أو الجنوبي أو الموريتاني والمتمثلة في وجود الماء العذب لم تجد بعدُ حلاً، فالمياه المحلية مالحة وإذا كان ببئر انواكشوط القديمة ماء شروب فإنه لايشكل حلولاً آمنة ومُستديمة لتجمعات بشرية ستزداد أعدادها لامحالة، لذا تم التفكير في توصلة تجلب الماء من بلدة إديني التي تبعد 60 كلم شرق العاصمة الناشئة.

في هذا التاريخ كان بناء العاصمة الجديدة يتقدم بسُرعةٍ، فحل الاسمنت محل الطين القديم في لكصر. والأدوات المحلية الوحيدة التي تدخل بصفةٍ معتبرة في إنجاز المدينة الجديدة هي تربة الحزام الرملي والمحارة. والافراط في استغلال هذه الأدوات ربما لايخلو من انعكساتٍ سلبية على مُستقبل العاصمة (يبدو أن السلطات لم تع هذا الخطر إلاّ بصفةٍ متأخرة جداً).

 

ومهما يكن من أمر فإن اختلاف النمط العمراني الجديد عن النمط القديم في عاصمة الدولة المُستقلة سيؤثر على سلباً على كافة التوقعات التنموية ويلحق الضرر بمخطط توسيع المدينة نتيجة لنمو سكانها المتسارع جداً. ويبين الجدول التالي مراحل هذا النمو المذهل:

 

عدد الســـــــكان                                                         الســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنة

 

5807

 55000

 

130000

 

134704

 

590532

 

743,511

على التوالي حسب السنوات :

1962

1972

 

1975

 

1977

 

1988

 

2005

 

المصدر: المكتب الوطني للإحصاء

وتفسر ظروف مختلفة الوترة المتسارعة بصفةٍ غير عادية لسكان العاصمة الموريتانية منذ الاستقلال وأهمها مما لاشك فيه هو تأثير وظيفة العاصمة المركزية السياسية المؤسسية على المدينة الجديدة، وهو مايمكن أن يفسر جميع الظروف الأخرى، فإذا بدأنا من ورشة بناء المدينة فإنها تشكل أهم عرْضٍ للعمل “المعاصر” في موريتانيا في نهاية الخمسينات، فقد نمت وتطورت بصفةٍ سريعة جميع الحرف الصناعية المرتبطة بالبناء من معامل الحديد والتجارة والرصاصة والكهرباء…. وغيرها، كما تعدّدت وتكاثرتْ المحلات التجارية والخدمات وشهد النقل تطوراً كبيراً.

والاستقطاب السياسي، وإن لم يكن بالإمكان تقدير تأثيراته الخاصة، قد تسبب في كافة مابقي، فجميع الناس يتوجهون إلى انواكشوط لأنه “يجري فيها كل شيء” وتعقد فيها آمال النجاح أو حتى مجرد البقاء، وتبرز فيها التحالفات وتأتي أكلها شأنها في ذلك شأن التدخلات والوساطات. وإلى انواكشوط تأتي جميع المُساعدات التي تُعطى للدولة وفيها تجازى وتكرم القبائل وفيها محل الحل والعقد…إلخ.

ولولا الظروف المناخية المأساوية التي عرفتها موريتانيا منذ بداية السبعينات، ولولا تلف الجزء الكبير من أنظمة الانتاج الريفية (الزراعة والتنمية الحيوانية) الذي رافق ذلك لكانت نواكشوط عرفت تأثيراً ديموغرافياً غير النمو الذي عرفته منذ تلك الفترة.

وقد كان لحرب الصحراء (1975-1979) نتيجةً لانعدام الأمن الذي سببته في المناطق الشمالية خاصةً، دور مهم في زيادة حركات الهجرة إلى انواكشوط. فماهي تأثيرات هذه الحركة العمرانية السريعة التي عرفتها القلعة الصغيرة التي كانت تُسمّى انواكشوط سنة 1950؟

2- انواكشوط، هل لها روح؟

 

هل هذا التجمّع الذي يضم أكثر من ربع سكان موريتانيا أصبحَ مدينة بالفعل؟ وبعبارةٍ أخرى وحسب التعريف الذي يعطيه المعماريون وعلماء الاجتماع للظاهرة الحضريّة فهل تشكل انواكشوط كياناً كُلياً قائماً دون جميع أجزائه؟ وهل يتعلق الأمر فقط بمجموعةٍ من الأراضي المحصورة والقطع الأرضية الفارغة المنسقة بصفةٍ عشوائية؟ وإذا ما اعتبرنا الشكل الموروفولوجيّ للمظهر الحضريّ ومسلكيات سكان المدينة كسلسلةٍ من الأعراض وكمجموعةٍ من الانعساكات فما الذي يمكن أن نقوله عن حضرية ومدينيّة انواكشوط وسكان انواكشوط والعلاقات التي تقوم بين المدينة والعالم الريفيّ الذي تترسّخ فيه البداوة وتنحدر منه المدينة؟

وبالمقارنة مع الدول المجاورة في إفريقيا الغربية القديمة فلم تعرف موريتانيا الاستعمار إلاّ متأخرةً وصفةٍ سطحيّة نوعاً ما (1934 هي السنة التي استتبت فيها الأمور للمُستعمر). ولن تظهر تأثيرات الاحتلال الاستعماري للبلد إلا بعد نهاية هذا الاحتلال. فنظراً إلى أنّ الادارة الفرنسية كانت واعية للطابع البدوي لأكثرية السكان وأخذا منها لذلك في الاعتبار فقد فضلت الطريقة الغير مباشرة للحكم ومنحت للسكان مجالاً واسعاً من الاستقلالية. ومكنت سنوات الخصب في الخمسينات وبداية الستينات المنمين من الابتعاد عن أماكن وجود السلطة حيث الرقابة والضرائب فأدار البدو ظهورهم لإدارةٍ ليسوا في الحقيقةٍ بحاجةٍ إليها وبقوا على تلك الحال حتى أجبرهم جفاف السبعينات على التخلي عن أراضيهم الواسعة والهجرة للمُساهمة في زيادة أعداد سكان الأحياء الهامشية في المدن، وخاصةً في مدينة انواكشوط. وقد حطوا رحالهم في هذه الأحياء ومعهم بالطبع عقلياتهم وفي بعض الأحيان أجزاءٌ من ماشيتهم.

ليس من السهل أن نُكوّن فكرةً عن حجم الماشية الموجودة في مدينة انواكشوط والمناطق الحاذية لها مُباشرةً، وملاحظة العين المجردة تُبيّن أن الحمير والخيل التي تجرّ العربات موجودة بكمياتٍ كبيرة في الأحياء الشعبيّة، والحيوانات المجترة الصغيرة التي تُربّى لألبانها ولحومها في مناسبات الأعياد والأفراح وغيرها تنتشرُ هي الأخرى في منازل هذه الأحياء وعند حراس ورشات الفيلات الكبيرة في حي لاس بالماس وغيره من الأحياء الراقية. وتعطي دراسة قام بها مكتب الدراسات BSA في شهر يناير 2003 في حي الرجاء المتواضع الأعداد المبنيّة في الجدول التالي بالنسبة لما مجموعه 455 منزلاً أُسرياً شملهم المسح: (اتويزه الرجاء، مسح، ص: 27).

                 

 

العـــــــــــــــــــــدد                                                الحيوانات

 

 

20

98

 

13

 

0

 

0

 

 الحمير

 المعز

 الضأن

 البقر

الإبل

وإذا كانت الإبل والأبقار لاتظهر في لائحة حيوانات الأسر ذات الدّخل الضعيف جداً (10000 أوقية شهرياً) فإنها، وخاصة منها الإبل، توجد بأعدادٍ مُعتبرة في انواكشوط وضواحيها وبالخصوص في مقاطعة توجنين. وهذه الحيوانات تشكُل في بعض الحالات مايمكن أن نُسميه بالقطعان الثانوية قياساً بالمنازل الثانوية أي أنها قطعان تُستخدم في الاستجمام والراحة خارجاً عن مقر السكن الرسمي، كما يُستخدم بعض هذه الحيوانات الموجود في المدينة لبيع ألبانها يومياً للأفراد أو لشركة الألبان الموريتانية التي بدأت منذ 1989 تبيع لبن الإبل المُبستر، ونجح مشروعها نجاحاً كبيراً، لأن استهلاك مُنتجاتها دخل في العادات الاستهلاكية لسكان انواكشوط ولو أنه مازال ينافسه اللبن الطازج الذي يمكن شراؤه من نقاط البيع الموجودة في ملتقيات الطرق وخاصة على طريق اكجوجت بمحاذاة المطار والقرب من حظائر الحيوانات. وأماكن بيع هذا اللبن مصنوعة من أدوات ومعداتٍ ملفقة من أطر السيارات التي لم تعد صالحةً للاستعمال وهذا الأمر غريب جداً، وهو الجمع بين مقابر السيارات وتعليف الإبل.

ولكن، وكما أشرنا إلى ذلك أعلاه فإن البداة القديمين لم يجلبوا إلى انواكشوط الأنشطة الرعوية فقط، فقد أتوا معهم بمجموع ممارساتهم الثقافية (المنزلية والسكنية وطريق الملبس والتعليم والزواج). فماهي الآثار التي يُمكن أن تُنسب إلى التحضر المتسارع للبداة القديمين والتي تظهر في الشكل المورفولوجي لمدينة انواكشوط؟ وفي توزيع السكن فيها وفي شكل هذا السكن؟ وماهي أعراض الحياة الحضرية التي ستقرأ على ضوء هذه البداوة المترسخة؟ وإذا كان لابد من التزام الحذر في الافراط الثقافي الذي يريد أن يجعل البدوي لايتقيّد بالزمن، فمن غير المحظور، تمشياً مع النظرية الخلدونيّة ومع أعمال الباحثين المعاصرين والسوسيولوجيا الحضرية، أن نتساءل عن الطريقة التي تكون بها انواكشوط أو لاتكون مدينةً  نتيجة للبداوة القريبة لمكونةٍ رئيسية من ساكنتها.

إن المدينة كما أشارت إلى ذلك كثيراً عدد من الدراسات السوسيولوجية المنبثقة من أعمال مدرسة شيكاغو، هي المجموع الكليّ لجميع أجزائها وهذا واقع معقد وحي يتمثل في مركبٍ من العناصر يقوم بتأثير “مصف” (يستخدم التحليل والتمييز والجمع العدائي أساساً) على التضامنات “الأساسية” للتجمعات الريفية الصغيرة ويخضعها لمجالٍ محصور حتى ولو كان مفتوحاً مثل مجالهم البدوي. وبهذه الطريقة تزدهر المدينة وتنمو وتقوى روحها على أنقاض التضامنات التي تتوجه عادةً إلى استبدالها باستخدام متعدد الوظائف للمجال ( أماكن السكن والعمل والراحة والساحات العمومية…إلخ) ولأشكال التجمع المبنية على الاكراهات والمنافع “الجذرية” (الانتماء إلى نفس فئة الدخل أو إلى نفس السلك….إلخ) أكثر منها على أواصر القربى (نفس القبيلة أو العرق). وتكون المدينة قبل كل شيء هي الآلة التي تنتج الأفراد وترتب وتنسق علاقاتهم وروابطهم وفق تأثيرات بعض الأوساط الخاصة بتركيبة وبنية المدينة التي ترتبط عند ماركس وويبر وعند ابن خلدون بدرجةٍ ما بتوزع العمل وبذلك تكون عند الأولين (ماركس وفيبر) ظاهرةً مرتبطة بالمرحلة الرأسماليّة من التاريخ البشري.

وسواء تعلق الأمر بتوزيع سكان انواكشوط في المجال أو بالممارسات الاجتماعية المرافقة لهذا التوزيع أو تعلق بطرق التنظيم والتيسيير الذي حاولت السلطات العمومية (ومازالت تحاول) أن تثؤثر بها على حياة وتطور المدينة فما الذي يمكن أن نقوله على ضوء العموميات المذكورة آنفاً عن مدنية أو بداوة العاصمة الموريتانية؟

لقد تناولتُ النمو السريع جداً لمدينة انواكشوط وخاصة بعد 1970. وقد أعدت مخططات توجيهية تحاول أن تسايرهذه السرعة الجنونية للمدينة لكن بقيت كلها بلاجدوى وواصلت المدينة سرعتها وجريها دون أن تسأل عن ذلك أحداً. ونتج عن ذلك توسع ضخم في المساحة (20 كلم من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق) على حساب كثافة استغلال الأرض التي كانت أفضل، كمايقول ذلك المخططون، من أجل الاستصلاح  (ماء، كهرباء، صرف صحي، طرق، تجهيزات عمومية).

وهذا التوسع العشوائي والمتعدد النوى لايمكن أن يكون له مركز تشكل فيه الأسواق – حيث ماتوجد- وسطاً للمدينة وهو كماتقول آمرل شوبلن في كتابها (دراسة الروابط بين المدينة والدولة) على حساب “الجنون المكاني” الذي يميز بصفةٍ خاصة العادات البدوية؟ ويبدو كذلك أن هؤلاء المتحضرين الجدد قد عملوا على “تصحير” المدينة وعلى تجريدها من كل مايمكن أن يجعلها تقرأ (أسماء الشوارع وأرقامها…إلخ) لإرجاعها إلى الحيزية المشعة المتكونة من الطرق والمعالم المرئية التي تطلق عليها في بعض الأحياء تسميات تحمل نبرات الاحتجاج (مثل كج الحاكم، ملح من حيطك، نتك جنبة…إلخ) المنافية للتحضر والتي تطبع طريقة تأثير البداوة في المجال.

إن التوزيع المكاني لسكان انواكشوط التابع جزئياً لترتيب القدوم إلى المدينة (من أتوا متأخرين يسكنون دائماً في المناطق الهامشية البعيدة) تتحكم فيه جملة من معقدة من العوامل التي يلعبُ فيها دوراً مركزياً الرأسمال الاقتصادي والبيروقراطي المرتبطان ببعضهما البعض وترافقهما هويّات قبلية أوعرقية أو جهوية، كل هذا في محيط من الشرعية الغامضة تشكل فيه الشطارة والفوضى (أتفكريشْ، اجبجيب، ولكزير)جزاءاً من قواعد اللعبة مما يُغذي المضاربات العقارية وأنواع التحايل من طرف البارعين أو من بحورزتهم رؤوس أموال متفرقة من “اللاّعبين”. ومع عدم الوضوح في تحديد الفروق ومع تداخل الغنى والفقر (أحياء لاس بالماس الواقعة على طريق نواذيبو في اتجاه هوائيات البث الإذاعي والتلفزيوني تخفي داخلها كبة حقيقيّة تتكون من حراس الورشات وأكواخهم وأولادهم وأغنامهم وكلابهم). وعلى الرغم من وجود معطياتٍ دقيقة تمكن من التحديد الواضح للغني والفقير، فإن تميّزاً واضحاً بدأ يظهر في انواكشوط بين الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة. فالتناقض واضح وجلي بين فيلاهات تفرغ زينة الضخمة وأحياء الميناء الهامشية إذا ما اقتصرنا فقط على طرفيْ قياس المظاهر الخارجيّة للغنى المعماري في انواكشوط. وتوجد بين هذيْن الطرفين مناطق واسعة توجد بها مستويات دخول لاتوجد بينها فروق شاسعة مثل الأجزاء القديمة من العاصمة BMD ولكصر ومدين. و(المناطق الناتجة عن توسعها في بداية الثمانينات مثل تيارت وغرب توجنين وشمال عرفات والسبخة).

ومع الأسف لاتتوفر البيانات الدقيقة عن كل حيّ فيما يتعلق بالبنية الديمغرافية وحجم الأسرة وأصولها الجغرافية وتاريخ استقرارها في المكان ومستوى تعليمها ومهنتها ودخلها وطبيعة المسكن وحجمه. فلو كانت متوفرة لمكنت من توضيح المحتوى السوسيولوجي للفروق والتناقضات في مختلف قطاعات انواكشوط، لكنه يمكننا القول بناء على التخمينات أن الأحياء الغنية (أي تفرغ زينه) أكثرية سكانها من البيظان، والسكان المنحدرون من الزنوج الموريتانيين (بولار، صونينكي، وولوف) وأكثر الوافدين إلى العاصمة من الزنوج يتوجدون أساساً في أحياء السبخة (قبل أحداث 1989 كانت توجد مجموعات من الولووف في لكصر لكن من لم يرحل منها انتقل إلى السبخة واتخذها مسكناً) حيث يمارسون المهن الصغيرة المرتبطة بالحرف الصناعية، وفي الأحياء الأخرى، والتي هي أكثر فقراً (الميناء، الرياض، دار النعيم، جزء كبير من عرفات، توجنين، وتيارت) فإن أكثر السكان تتكون من الحراطين حتى ولو كانت يوجد فيها عددٌ من أسر البيظان الأكثر فقراً وجماعاتٍ صغيرة جداً ومتفرقة من الزنوج الموريتانيين.

هذا التنوع السيسيولوجي للجماعات يعبر عن الحركية الخاصة بالتركيبة الحضرية التي تفرض ملاقاة “الآخر” الغريب والمجهول الهوية مع إمكانية عدم الاحتكاك به، كما أنها امتداد لمسلكياتٍ ريفية تتأثر جزئياً بالبداوة. ويبدو أنه في الوقت الراهن ولكي تسد الطريق أمام هذه اللقاءات التي من المعقول أن يشجعها التنوع الحضري فإن الاكتظاظ هو السائد. ففي انواكشوط انواكشوط لايكاد يوجد أي شيء يشبه المجال العمومي وجميع المحاولات التي قيم بها في هذا الصدد قد باءت بالفشل، فمجالات الحدائق الحضراء تم الاستحواذ عليها وتملكها وق اختفت المقاعد العمومية وهذا مثال بسيط – لكنه في رأينا رمزي – على الحرب غير المعلنة على المجالات العمومية في انواكشوط، ومنه التدمير الكبير الذي استهدف أشجار البروزوبيس الجميلة التي كانت بالقرب من المكتب المركزي للبريد والتي كان بعض المتقاعدين البولاريين يتخذونها شجرةً للاجتماع وتبادل أطراف الحديث، فقد قطعت هذه الأشجار عدة مرات ولم يبق منها إلا جذوعها، وهذا مايمكن أن يأول على أنه من إظهار العداوة عند البدو (كثير من البيظان، يعتقد أن الاشجار كلها تحمل الباعوض) أو تعبيراً عن الوقوف المتعمّد ضد فكرة المجال العمومي التي لايعرفها على الإطلاق الحي البدوي عند البيظان.

وهيمنة الاكتظاظ التي ترافقها الموارد المالية وتجعلها ممكنةً ربما أيضاً تكون راجعة إلى البنية السلمية للمجتمع البدوي وترسيخ فكرة العصبية فيه. ففي المدينة، حسب هذا المنطق، ينبغي أن يبقى المرء مع نفسه وأن يتجنب أي علاقةٍ غير متكافئةٍ لئلا يلوث نسبه العائلي كما أن عليه أن يترفع ما أمكن عن الأعمال التي لاتتماشى مع مكانته أو وضعيته، وهي بالنسبة للبيظان جميع الأعمال الأخرى غير التجارة والإدارة.

والأعمال اليدوية تترك للحراطين والزنوج الموريتانيين وذلك مايفسر سيطرة الأعمال اليدوية في الأحياء التي يسكنها الزنوج.

وإذا غادرنا الحيّ الآن وتوجهنا إلى المجالات المنزليّة فإننا سنجد بعض تأثيرات عالم البدو على الحياة الحضرية. فهناك الخيام الموجودة في فناءات المنازل الراقية الحديثة. وترى شوبلن أن القباب المزدوجة أو الثلاثية – وهو نمط كثير الاستعمال الآن في فيلاهات انواكشوط الجديدة – نوع من التأثر بالخيمة البدوية. وبناءات بعض الفيلاهات توجد بها “خيام من الإسمنت” توفر نفس الراحة والتهوية التي تفسرها المساكن المتحركة في فترة ماقبل التحضر.

ومن يتتبعون الأنماط العمرانية الجديدة في انواكشوط يلاحظون الأبعاد – الفرعونية في بعض الأحيان- للفيلاهات التي تنتشر بسرعةٍ في الأحياء الراقية  والتفاخر في المزج بين الأنماط والأساليب العمرانية، وهنا نتذكر ابن خلدون  ليس من باب التنبيه على سوء الذوق الذي يقضي الجمع بين بعض الأنماط والأساليب مثل أنماط المعبد المتعددة الأدوار والمعبد الإغريقي والمسجد ولكن من باب جعل هذه الشراهة المكانية في السياق الذي يقود العمران البدوي إلى العمران الحضري. والبحث عن الترف والتفاخر فيه كنوعٍ من التعويض عن فترة البساطة الطويلة والصعيبة – إن لم نقل البائسة- يشكل بالفعل، حسب المؤرخين “اللحظة” المهمة، حسب مفهوم هيغل، التي يتم فيها الانتقال من وضعية البداوة إلى وضعية التحضّر. والتزايد الكبير في نمو المجالات المنزلية المغلقة – الذي يستحق دراسة خاصة به – يبدو أنه يُساهم في التحضير والإعداد لشكلٍ أعم من الانطواء يصيب البدوي في بداية استقراره. وهكذا بدأنا نلحظ نوعاً من الفصل الواضح في المجال المنزلي بين عالم المرأة وعالم الرجل في حين كانت خيمة العهد الماضي تسمح بالخلط الصريح وعدم وجود الحواجز المادية الدائمة بين الجنسيْن.

إن التسابق على الأنماط العمرانية الخارجية للترف الذي تغذيه استراتجيات التميز عن الآخر والذي يضيف فيه أصحاب “النعم” الجديدة مالم يقم به أصحابها في الأمس، هذا التسابق تستخدم فيه موارد مالية ضخمة وتعبأ فيه شبكات من العلاقات تمتد وتتقوى حول نظام التوزيع المركزي الذي تشكله الدولة وتساهم بالطبع وبطريقةٍ فعالة في إعادة تشكيل المظهر الحضري لمدينة انواكشوط. ويمكن هنا أن نتحدث عن تنويرٍ آخر للإلهام الخلدوني على هذا العرض المرضي. فانواكشوط كما أشرنا إلى ذلك سابقاً هي استحداثٌ سياسي وعاصمة لدولةٍ مُستوردة وهي المكان الذي تتكلم فيه السلطة وتتوراث وتتواصل وتُغصب وتؤخذ وتطبق لكن – وهنا أرجع إلى ابن خلدون – الثقافة القبليّة التي ترسخت في مفهوم الدولة، والتي تتكلم في قيم ومسلكيات أكثر سكان انواكشوط تُعطي للدولة من خلال الرؤية التي تنقل بها العلاقة بالسلطة تمثيلاً مزدوجاً، فمن جهة هناك الاستسلام الذي يؤدي إلى التبعية والعبودية وهو جانب العمران الحضري الذي يجعل جميع الناس مماليك، وفي الجانب الآخر هاك تأثر فوضوي بالأسلاف يطبعه الارتباط بالأنماط البدوية والتنافس بين العصبيات. والصراعات المعمارية للتموقع بين الأفراد والشبكات التي يرتبط فيها النجاح أساساً بالتقرب والتملق للدوائر العليا في الدولة السائرة في طريق السلطنة هي التي يتجه البداة القديمون إليها سعياً إلى إثبات وجودهم. فهل يمكننا القول بأنهم مع ذلك “يتحضّرون”؟

نقلا عن صحيفة تقدمي