تأهيل ودمج “المعوقين” أولى من شفقة كل المانحين (ح2)

أربعاء, 27/04/2016 - 12:03

من بدهيات التنمية الشاملة أن المعوقين يستطيعون في كل الأوقات أن يعيشوا حياة منتجة وحافلة ، وذلك بالتدريب الملائم والحوافز الخاصة والتأهيل المستمر، فقد ثبت عبر التاريخ أنهم قادرون حقيقة على الإنتاج ، وعلى المردود التنموي في الكثير من الحالات إذا ما أحسن توجيههم وتدريبهم والنظر إليهم بشكل علمي متحضر ضمن دائرة المنتجين والمبدعين ،اعتمادا على معادلة الحقوق والواجبات وتنمية الحواس السليمة للاستفادة منها في اكتساب الخبرات المتنوعة والمعارف المختلفة .

لذلك فلاعجب إذا كان أول من سنَّ النظام الاجتماعي لحماية المستضعفين وأسس أحسن النظم لرعاية المعاقين في تاريخ البشرية، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه ـ وذلك بإنشائه للديوان المنظِّم لهذا الغرض ، كما أنشأ عبدالملك بن مروان أول مؤسسة لرعاية العجزة والمصابين بأمراض معدية في دمشق، وبعد ذلك  أنشأ الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز ديوانًا للقضاء على التسول والمسكنة ،

وفرض المنصور للأرامل معاشًا ، كما فعل المهدي أكثرمن ذلك بفرضه للمجذومين والعاجزين راتبًا ثابتًا.

ومعلوم كذلك أن الإسلام قد دعا إلى تأهيل المعاقين ودمجهم في الحياة النشطة ، وبلغت عنايته بهم حدا من الرُّقِي والسمُو، إلى درجة أنهم ذُكِروا في القرآن الكريم ، وعُومِلوا معاملة حسنة وفي نفس الوقت قام هؤلاء بجهود كبيرة في خدمة الإسلام والبشرية كلها ، بعد أن تغلّب العديد من العظماء والمشاهير على احتياجاتهم الخاصة، وقدموا للبشرية إسهامات مهمة في مختلف المجالات .

وقد دلَّت على ذلك بشكل واضح قصة الصحابي الجليل عبد الله بن أُمِّ مكتوم – رضي الله عنه – الذي استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين على المدينة ، وكان يؤذِّن مع بلال بن رباح ، ولم يبالِ ابن أم مكتوم بفقد بصره، فشارَك في معركة القادسية ، ووقف مستندًا على ذراع أحد المسلمين يعتلي ربوةً عاليةً وهو يصيح: “ادفعوا إليَّ اللواء ، وأقيموني بين الصفَّين” ، وظل يطالب باللواء ، ويحاول المسلمون ثَنْيه عن عزمه ، حتى نال نعمة الشهادة في هذه المعركة .

 ومثله الصحابي البطل عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – الذي أبى إلا أن يشارك في الجهاد وهو يردد عبارته المشهورة : “والله إني لأرجو أن أطأَ بعَرْجَتي هذه في الجنَّة “ .

كما أن عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، أصيب في معركة أُحُد عدة إصابات في مختلف أنحاء جسده، سَبَّبت إحداها عرَجًا دائمًا في ساقه ، والأخرى أسقَطت ثناياه وتركت تأثيرًا واضحًا في نُطقه ، فإذا به يستمر بالتصدُّق ولم يَعزل نفسه عن المجتمع.

ولنا في كثير من العلماء والصالحين والشعراء والأدباء قدوة ، مثل الترمذي محمد بن عيسى ، الإمام العَلَم صاحب السُّنن الذي كان أعْمَى، وأبو الأسْود الدُّؤلي- القاضي الفقيه المحدِّث النحوي – كان أعرج ، والقارئ الحافظ المجود صاحب الرواية المشهورة في علم القراءات عيسى بن مينا ” قالون ” كان أصم ، والفقيه عطاء بن أبي رباح كان ، أعرج أشلَّ، ولكن كان يُرجَع إليه في الفتوى في مواسم الحج ، وكذلك العالم الجليل ابن الأثير صاحب كتاب “الأصول كان مُقعَدًا لا يستطيع القيام، ومحمد بن سيرين أحد أتباع التابعين كان أصمَّ ، ورغم ذلك فإن سيرته حافلة بالعلم ، والحرص على الحلال في التجارة ..وغيرهم من الاعيان والاعلام على مر العصور ، ففي العصر العباسي مثلا سطع نجم الشاعر بشار بن برد الذي كان ضريرا ورغم ذلك فقد تغلب على العمى كما نلاحظ في البيتين التاليين:

قالوا بمن لاترى تهذي فقلت لهم   الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

ياقوم أذني لبعض الحي عاشقة    والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وفي العصرالعباسي كذلك برز دورالشاعرالفيلسوف أبوالعلاء المعري الذي عاش مكفوف البصر ومع ذلك ألف مصنفات جمة ، نذكر منها على سبيل المثال “سقط الزند ” “واللّزوميات ” “ورسالة الغفران ” التي قد تأثر بها الشاعر الإيطالي دانتي أثناء كتابته لملحمته الشهيرة “الكوميديا الإلهية “.

أما في العصر الحديث فنجد أن عميد الأدب العربي طه حسين قد أصيب بالعمى في صغره ورغم ذلك فقد تولى تدريس الأدب العربي وشغل منصب وزير المعارف وترأس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، وأثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات ، وكان علامة بارزة في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة ،

 

وإذا كان التاريخ قد سجل للمسلمين وقادتهم أجمل معاملة واحترام لشريحة المعوقين فإن الرومان والأوروبيين من بعدهم ،كانوا على  النقيض من ذلك حتى القرن الخامس عشر الميلادي، فكان تعاملهم مع المعوقين فظًّا يتضمن اعتقالهم وتشويه أجسادهم ، وأحيانًا يتضمن الحرق أو الإغراق أو الشنق .

وقد استمر الحال في أوروبا على هذا النهج حتى ظهرت الحركات الفكرية وحركات حقوق الإنسان التي ساهمت كلها في تغيير نظرة الدولة والمجتمع تجاه المعاقين ، مما أدى إلى تغلب العديد من العظماء والمشاهير على إعاقتهم ، حتى وَصَل الكثير منهم إلى درجاتٍ كبيرة من العِلْم والمجد والنبوغ، وتسلُّق بعضهم أرفع المناصب في بلاده .

فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد من بين المشاهير المعوقين عالميا الشاعر الإنجليزي جون ميلتون الذي كان كفيفًا عندما كتب ملحمته الرائعة ” الفردوس المفقود “، كما أن روزفلت الرئيس الوحيد للولايات المتحدة الأمريكية الذي انتخب أربع مرات ، قد أصيب بشلل الأطفال ، واعتقد الجميع حينها أن نشاطه السياسيّ قد انتهى ، إلا أنه وبعد صراع مع المرض عاد بقوة للحياة السياسية عام 1924م.

وكذلك كريستي براون الكاتب والشاعر الأيرلندي، ولد وهو مريض بالشلل وقد تعلّم الكتابة بقدمه اليسرى ، ونُشرت سيرته الذاتية بعنوان قدمي اليسرى عام 1954 ، وهناك نماذج أخرى كثيرة ممن تغلبوا على ما أصابهم بالإيمان والصبر والمثابرة والرغبة في حياة مثمرة .

وبذلك ولّى الزمن الذي اعتبر المعاق فيه عبئًا على مجتمعه  ـ ولو نظريا ـ فهو الآن إنسان كغيره من أفراد المجتمع ، فلم يعد من المنطقي أن يهمّش دور المعاق إلى درجة الإهمال، وتحويله إلى عالة على أُسَرته وعبء تنموي وأخلاقي على مجتمعه إذا ما بقي بعيدًا عن التأهيل بكل مستوياته ليصل إلى حافة الفقر والجهل المؤديين حتمًا إلى العديد من التعقيدات المزمنة التي يعانيها مجتمع الإعاقة في معظم أنحاء العالم الثالث .

 وخاصة بلادنا التي فضلت هيئاتها الحكومية المختصة أن تتعامل بالرسميات ـ رغم الجهد المشهود للمنظمات الموريتانيةالعاملة في ميدان الاعاقة ـ وتتجاهل في نفس الوقت المشاكل الحقيقية لذوي الاحتياجات الخاصة وتتركهم في الشوارع عرضة للتهميش والضياع والتسول ، في ظروف صعبة تحرك الضمائر وتبعث على الإعتقاد أن السلطات في بلادنا لا ترى حلا مطلقا لمعضلتهم ، أو أنها قد اختارت بعض أفراد هذه الشريحة لمهمة التسول !

إلا أن هذا يستدعي من الكتاب والسياسيين ومنظمات المجتمع المدني الوقوف مع أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة ، وتبني قضاياهم حتى يأخذوا كافة حقوقهم ، فنحن المسلمون “كالجسد الواحد” وكالبنيان المرصوص ” ، وفي هذا الصدد كتب محمد يسلم ولدغالي أستاذ اللغة العربية في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية تدوينة على صفحته الخاصة جاء فيها مايلي :

” عيب عيب…!

عيب على دولة إسلامية أن تجد على الشارع من يزحف بين السيارات وهو مشلول الرجلين واليدين ومن هو أعمى ومن ليست له يد يمكن أن يأخذ بها الصدقة إذا وجد من يتصدق عليه…

هذا الصنف من الناس لا يجوز شرعا أن يتركوا على هذه الحال فيجب على الدولة وعلى المجتمع بأكلمة أن يتولى أمرهم وأن يخصص لهم من ميزانية الدولة ما يكفيهم من سكن ومعاش ورعاية صحية…

هؤلاء ليسوا عاجزين عن العمل فحسب بل عاجزون عن التسول عاجزون عن الحركة، أو الرؤية…

وإذا لم تقم الدولة بواجبها تجاههم فيبقى الإثم على الأغنياء وعلى عموم الشعب ممن يفضل له أبسط شيء عن قوته اليومي أو يجد ما يواسيهم به حسب طاقته.

وجود مثل هؤلاء بهذه الحال عيب على الجميع على السلطات ……

على رئيس الدولة رئيس الفقراء….

وعلى الحكومة عموما…

وعلى رجال الأعمال والتجار البسطاء والموظفين…

وعلى السياسيين والعلماء والمثقفين والإعلاميين …

الأمر يا إخواني خطير جدا فحق هؤلاء لا يدخل في باب صدقة التطوع بل في باب المواساة الواجبة لهؤلاء على من يملك ما يفضل عن قوت يومه…

هذا هو الحكم الشرعي وهو ما يمليه الضمير الإنساني، إن كان فيكم من يهمه الحكم الشرعي أو فيه مثقال ذرة من المروءة والكرامة والإنسانية “

ومع ذلك فينبغي أن لايفهم من هذا الكلام أننا نظر إلى شريحة المعوقين التي وصل بعضها إلى القمة ـ كما رأينا سابقا ـ نظرة شفقة وعطف لم تعد تواكب العصر ، ولكننا بدلا من ذلك نسعى من خلال هذا الجهد المتواضع إلى تأهيل المعوقين عن طريق الحوافز والتمييزالإيجابي ، وإلى تدريبهم على العمل المناسب لنوعية الإعاقة  ، ومن ثم تنمية حواسهم السليمة ، لأنهم أشخاص أصحاء يمكن إعادة دمجهم في الحياة النشطة ، أما إذا كانت الإعاقة شديدة بحيث لا يستطيع صاحبها مزاولة أي نشاط ، فإن على الدولة أن تخصص له من ميزانيتها راتبا يكفيه مدى الحياة ، باعتباره صاحب حق وكرامة ، مثل كل مواطن آخر يتقاضى راتبا من دولته .

غير أن اعتماد الجانب المادي لوحده لا يكفي لمعالجة الجروح الغائرة التي سببها الأغبياء من أفراد المجتمع الذين لا يدركون أن كل واحد منا لا يَمتلِك حصانةً ضد الحوادث ، سواء في الطريق أو في العمل أو أيِّ مكان آخر، فيُمكن لأيِّ إنسان في عصرنا هذا أن يُغادر بيته صباحًا ويعود إليه في المساء على كرسيٍّ متحرِّك، كما أنه مُعرَّض في كل وقت للإعاقة والشلل وحتى الجُنون .

باباه ولد التراد