أيضا: الثقافة... إلى الوراء!

ثلاثاء, 27/11/2018 - 17:27
م. محفوظ ولد أحمد

رغم الفقر المدقع ـ ماديا وبشريا ـ غداة الاستقلال، كان المؤسسون لهذه الدولة يملكون الأفكار البناءة والاستعداد والطموح الوطني؛ فوضعوا الأسس واللبنات لكافة أركان ومتطلبات الدولة العصرية، وجعلوها تنمو حسب الطَّوْل والحاجة في ذلك الوقت.

ومن القطاعات التي نالت العناية : "الثقافة"؛ فكانت دار الثقافة ودار الشباب من أجمل وأفخم مباني العاصمة، وقد طـلبوا من جمهورية الصين الشعبية أن تبدأ بها تعاونها مع موريتانيا، التي كانت وقفت مع الصين وقفة "استراتيجية" لن تنساها في الأمم المتحدة ضد تايوان (رغم إرادة الولايات المتحدة وفرنسا وحلفائهما !).

في دار الثقافة أقيمت نواة أول متحف وطني، وأنشئت مكتبة وطنية عمومية، ومشروع رائد لجمع واقتناء وصيانة المخطوطات والوثائق العلمية المحظرية (صار المعهد الموريتاني للبحث العلمي)، ومشروع جمع وكتابة التاريخ الموريتاني، الثقافي والاجتماعي، المروي (مشروع "مؤرخ الجمهورية" العلامة المختار بن حامد)، كما بنيت مطبعة حكومية عصرية ضخمة، ظلت تصدر جريدة "الشعب"؛ التي كانت منبرا ثقافيا ساخنا، يشهد أرشيفه اليوم على ضخامة وجزالة عطائه الثقافي والعلمي والأدبي...

ولاحقا أنشئ في قطاع التعليم بالتوازي مع مدرسة تكوين المعلمين العليا (ENS) ومدرسة تكوين المعلمين، الرائدتين، المعهد التربوي الوطني، الذي اضطلع بمهام وضع المناهج والتعريب، فكان يصدر كتبا مدرسية من المصادر الموريتانية الخالصة، ويقدم عبر الإذاعة حصصا تربوية للجمهور وللأسرة التربوية بشكل خاص...

وقد شجعت الدولة عن طريق القطاع الثقافي مختلف الأنشطة الثقافية والفنية؛ فأنشئت دور السينما وشجعت المبادرات البسيطة الطموحة للإنتاج السينمائي، حتى تم إنتاج فيلمين سينمائيين على الأقل كان لهما ـ على علاتهما ـ شأن بمقاييس ذلك الزمن البسيطة وإمكانياته القليلة، وخاصة في هذا المجال الصعب. ومع ذلك أنشأت الدولة مكتبا وطنيا للسينما، ثم وكالة وطنية للسينما والتلفزيون (AMATCI) !

وبينما شجعت الدولة وسهلت إقامة مراكز ثقافية عربية تابعة للبعثات الديبلوماسية العربية، فقد كان هناك نشاط ثقافي عام لا تخلو منه الأسابيع والأيام؛ مثل المحاضرات والندوات والمسابقات الشعرية والثقافية المتنوعة، والأمسيات الفنية؛ المسرحية والغنائية التي تبنى القطاع الحكومي أشهرها (لقاء الجمهور) ...

**

واليوم، بعد أن "نغمس الأصباع" في ذلك كله ونقلل من شأنه، ونَبشم من الثناء على التقدم والانجازات العملاقة التي تحققت، وخاصة في "العشرية الأخيرة" وسالفتيها !... دعونا نلقي نظرة على الساحة الثقافية، ونصيبها من تلك الإنجازات العملاقة؟ !

رغم المركزية المطلقة في الحكم والإنجاز، فإن انواكشوط هي العاصمة الوحيدة في العالم اليوم التي لا يوجد بها متحف كامل، ولا مسرح، ولا قاعة سينما، ولا معارض للكتب ولا للفنون، ولا مطابع أو دور نشر مهنية...!

إنه جفاف وتصحر مذهل خلفته سنوات القحط الانقلابية التي لم تكتف بحبس القطر الثقافي وإنما أفسدت الذائقة الثقافية وجففت منابعها المختلفة و"دَكَّمَت" القرائح، وحولت الإبداع إلى إنتاج النفاق والتملق والارتزاق في دوائر السلطة والنفوذ، ومستنقعات السياسة و"التبتيب"...

وفي مهرجانات المدن القديمة تمثيلُ أيام سبعة أو أقل، في محراب عبادة الحاكم؛ دخانًا من نار التزلف، تخمد فورا... لترجع تلك المدن إلى سُباتها في كهف الاحتقار والإهمال !

***

اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ...

اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، مَرِيعًا طبقا غَدَقًا، مُجَلِّلًا عَامًّا، طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا...

واجعله اللهم غيثا للأرض القاحلة، والعقول الناحلة، والنفوس الجامحة...!