الْقَبَلِيُّونَ الجدد / د.أحمد ولد المصطف

أحد, 15/07/2018 - 10:23

في البداية، من المهم التنبيه إلى الفرق الاصطلاحي بين القَبِيلَة و القَبَلِيَّة. فالأولى تعني بنية اجتماعية كانت (و ما زالت في بعض الأحيان) تمنح للمنتمين لها هوية اجتماعية. أما الثانية، أي القَبَلِيَّة، فهي إيديولوجية توظف الانتماء القبلي لمآرب سياسية.

فالمقال الحالي يحاول بعجالة، يقتضيها المقام، رصد الظروف الاجتماعية التاريخية التي عادت فيها القَبَلِيَّة من جديد بعد أن كادت تختفي

 

من الحياة السياسية العمومية في موريتانيا في نهاية سبعينات القرن الماضي.

فلاشك أن القبيلة هي ظاهرة اجتماعية ـ سياسية توجد في هذه الربوع منذ عصور ضاربة في القدم، و بالأخص في المكون العربي ـ الصنهاجي، مع وجود بنيات قبلية ـ أثنية في المكونات الأخرى من المجتمع (البولار، السوننكي، الوولف، إلخ.). فقد تأسست المدن و بعض الكيانات السياسية (دول، إمارات، مشيخات قبلية) على أساس العصبيات القبلية. و لعل المهتم بالتاريخ الموريتاني الوسيط و الحديث و حتى المعاصر و إلى غاية دخول الاستعمار الفرنسي للبلاد، يلاحظ أن الصراعات بين مختلف القبائل أو الكيانات المؤسسة على أساس تحالف مجموعات قبلية (الإمارات) كانت المحرك الأساسي لهذا التاريخ، في ديناميكيته الداخلية على الأقل.

و نتيجة عدم قدرة مجموعة معينة على السيطرة على كامل الفضاء الجغرافي الموريتاني الحالي، و الذي عرف بعدة تسميات تاريخية من قبيل: بلاد الملثمين، بلاد التكرور، بلاد المغافرة، بلاد شنقيط، اتراب (أرض) البيظان، إلخ.، و بسط سيطرتها عليه، انقسم هذا الفضاء إلى كيانات قبلية هنا و هناك، بعضها انتظم في إمارات، مع محافظته على البنية القبلية كوحدة سياسية و أمنية، فيما لم يستطع البعض الآخر الوصول إلى تلك الدرجة من التطور التنظيمي، ليستمر كمشيخات تدير شؤونها بنفسها حسب ميزان القوى بينها و المجموعات القبلية الأخرى. فأحيانا تتوسع مجموعة ما و تبسط نفوذها على مجموعات أخرى، و قد تدور عليها الدائرة فتصبح تابعة بعد أن كانت قائدة؛ و العكس أيضا صحيح، فقد تستجمع مجموعة ما كانت تابعة في السابق لقبيلة أو اتحاد قبلي معين قواها و "تتحرر" من نير من كانوا يخضعونها لإرادتهم، فتتبوأ مكانة سياسية و اجتماعية جديدة إثر انتصارها على أعدائها أو من كانت تعتبرهم كذلك.

و رغم احتكاك سكان هذه البلاد المبكر و المباشر بالاستعمار الغربي، و الذي دام أزيد من خمسة قرون، بدءا بالبرتغاليين و انتهاء بالفرنسيين، و ما كابدوه جراء ذلك من حروب و مآس و ما واجهوه به من مقاومة عسكرية و سياسية و ثقافية،  و رغم ما اكتسبوا من هذا الاستعمار من خبرات و معارف مفيدة و مدنية حديثة، ظل المجتمع الموريتاني يحافظ على هذه البنية القبلية التقليدية، على عادة الكثير من المجتمعات الصحراوية عبر العالم.

قبل استقلال البلاد، أو لنقل تحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح البلد، على غرار مختلف مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي، يتوفر على نخبة متعلمة تعليما حديثا و تطمح في المشاركة في تسيير شؤون البلد، جنبا إلى جنب مع الإدارة الاستعمارية. بدأ هذا المسار مع انتخاب أول ممثل عن مستعمرة موريتانيا في الجمعية الفرنسية سنة 1946، ثم تلا ذلك تشكيل الأحزاب السياسية و قانون الإطار سنة 1956، ثم مؤتمر ألاك في مايو 1958 و الاستقلال الذاتي في نفس السنة، و أخيرا الاستقلال الفعلي سنة 1960.

بعد الاستقلال، و نتيجة تحديات جمة، داخلية و خارجية، تبنت حكومة الاستقلال سياسة ذات شقين: الأول سياسي، يهدف إلى دمج كافة التشكيلات الحزبية القائمة حينها في حزب واحد، هو حزب الشعب؛ الثاني اجتماعي، و يتمثل في تحجيم نفوذ سلطان القبائل و الدعوات الأثنية. و مع أن القبيلة، بوصفها بنية اجتماعية، ظلت موجودة في ظل نظام الاستقلال، إلا أن نفوذها قد تقلص كثيرا.

بعد سقوط الحكم المدني الأول سنة 1978 و تولي العسكريين مقاليد الأمور، بدأت القَبَلِيَّة في العودة إلى الظهور، لتبلغ أوجها مع الانتخابات البلدية سنة 1986 و التعددية الحزبية مع مطلع تسعينات القرن الماضي. لقد أسست مرحلة الديمقراطية و التعددية الحزبية هذه لظهور طبقة سياسية تتخذ من القَبَلِيَّة وسيلة سياسية فعالة لتعبئة و حشد المناصرين على أساس الانتماء القبلي.

الأسباب التي مهدت لعودة القَبَلِيَّة

ترجع أسباب عودة القبلية إلى عدة عوامل، لعل من أهمها:

 تراجع المكانة الاجتماعية و الاقتصادية لفئات عريضة من الأطر الذين كانوا يمثلون الطبقة المتوسطة: المعلمون، أساتذة التعليم الثانوي و حتى أساتذة التعليم العالي، الأطباء، الموظفون و الوكلاء الإداريون، إلخ. و ذلك بفعل تدهور قدرتهم الشرائية نتيجة الهبوط المستمر لقيمة العملة الوطنية (الأوقية) و التضخم، و بشكل خاص نتيجة الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي قبلت بها السلطات العمومية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي بإملاء من المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي و صندوق النقد الدولي)؛

 ارتفاع أسعار السلع الأساسية؛

 تخلي الدولة التدريجي عن نظام الإقامة الداخلية Système d’internats الذي كان يوفر السكن و الإطعام و المنح المدرسية لشرائح عديدة من تلاميذ الإعداديات و الثانويات على عموم التراب الوطني؛

 توقف مجانية كافة العلاجات الطبية التي كان يوفرها النظام الصحي العمومي و حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي؛

 تفشي الفساد و الرشوة و المحسوبية على نطاق واسع في القطاعين العمومي و الخصوصي؛

في هذا المناخ الاجتماعي السياسي الاقتصادي الهش، وجد المجتمع نفسه فجأة وقد فقد جزءا كبيرا من العون الذي كانت تقدمه له الدولة، و بالأخص ما كانت تقوم به من مراقبة للأسعار و مجانية بعض الخدمات، كالصحة و التعليم. كذلك، و بفعل تسارع  وتيرة الفساد و سوء استغلال السلطة، أصبحت أمور، كانت اعتيادية في السابق و تتم بعدالة نسبية، في غاية الصعوبة. فعلى سبيل المثال، أصبح النجاح في المسابقات العمومية و التحويلات و الترقيات و التعيينات تتم في كثير من الحالات خارج الأطر القانونية، و بدل أن تحكمها معايير الكفاءة و الأهلية العلمية و الأحقية، أصبحت تحكمها اعتبارات الولاء السياسي و الانتماء القبلي و الجهوي و الزبونية، إلخ.

هكذا، و في هذا الخضم، ظهرت طبقة اجتماعية جديدة، يمكن أن نطلق عليها اسم"الْقَبَلِيِّين الجدد"، تتشكل من تجار و موظفين استطاعوا جمع ثروات معتبرة، بعضها تم بطرق شرعية، كالتجارة في البلد أو خارجه أو عن طريق مزاولة أنشطة اقتصادية أو مهنية أخرى، بيد أن الكثير من هذه الثروات ـ للأسف ـ  تم اكتسابه بطرق مشبوهة أو يجرمها القانون، كالتهريب و بيع السلع و الأدوية منتهية الصلاحية، أو عن طريق الاتجار بالمخدرات أو بواسطة الرشوة و نهب الأموال العمومية أو تبييض الأموال، أو عن  طريق الاستيلاء على أملاك الغير بالتواطؤ مع بعض أعوان الإدارة الفاسدين، كتشكيل شبكات لتزوير السندات العقارية أو وثائق الحالة المدنية، إلى غير ذلك من الممارسات المخالفة للقانون.

أرادت عناصر هذه الطبقة في مرحلة أولى أن "تستثمر" الأموال المتحصل عليها في مجتمعاتها المحلية لتجد مكانة اجتماعية ربما لم تكن لها من قبل، عبر طريق تقديم مساعدات مادية لبعض المحتاجين من بني جلدتهم و المساعدة في بناء بعض المرافق الخدمية لصالحهم، ثم استغلت ذلك سياسيا في مرحلة لاحقة ليصبح صوتها مسموعا و ذا تأثير في الحياة العامة للبلد، سعيا لتعزيز نفوذها و لكي تحصل على "حصانة" تمكنها من الإفلات من العقاب، بالنسبة لمن يعرفون أنهم أصحاب سوابق و يؤرقهم ذلك.

لقد أطاحت هذه الطبقة، في الكثير من الحالات، بالزعامات القبلية التقليدية و حلت محلها، و أصبحت هي عنوان مجموعاتها لدى القبائل الأخرى أو لدى الأجهزة الإدارية المحلية و حتى لدى التشكيلات الحزبية من موالاة و معارضة.

لكن قلة خبرة هذه الطبقة في التعامل مع "الملفات" التي وجدت نفسها مرغمة على تسييرها ، كحل الخلافات البينية بين مكونات المجموعة الواحدة أو التعامل السياسي مع مجموعات قبلية أخرى مجاورة أو بعيدة، جعلها في الكثير من الأحيان تقع في أخطاء فادحة نتيجة حداثة عهدها بالأمور العامة لجماعاتها أو لجهلها بتعقيد و حساسية المواضيع التي تقحم نفسها فيها.

غير أن أخطر ما في الأمر هو سعي بعض عناصر هذه الطبقة، الذين لا يتوفرون على الحد الأدنى من الأهلية المطلوبة، لتولي مناصب سياسية عمومية بالغة الأهمية، كالمناصب الانتخابية أو الوظائف السامية في الدولة، بترشيح أنفسهم أو أشخاص في مستواهم لتولي رعاية مصالحهم.

و قد تصل الأمور إلى درجة تنذر بخروج الوضع عن السيطرة، و ذلك عند ما ينجم عن هذا الترشح صراع داخلي قوي بين مكونات نفس المجموعة أو مع مجموعات قبلية أخرى منافسة.

لقد كانت الزعامات القبلية التقليدية، على علاتها، تتوفر في أحايين كثيرة، على قدر كبير من الحنكة و الحصافة و "الدبلوماسية" لتسيير أكثر الملفات القبلية خطورة و حساسية، سواء الملفات الداخلية أو تلك التي ترتبط بنزاعات مع قبائل أخرى، و ذلك نتيجة معرفتها المكتسبة عبر أجيال بالخلفيات التاريخية لتلك النزاعات و خطورة خروجها عن السيطرة، و ما قد تسبب من مشاكل و حرج. أما القبليون الجدد فإنهم يجهلون الكثير من تلك الأمور و تفاصيلها، لذا فإنهم في أحايين كثيرة يعجزون عن فهم المشكل أصلا، أحرى أن يجدوا حلا ناجعا له.

في خانة القبليين الجدد، ينضوي أغلب من يوظفون الدعاية القَبَلِيَّة من "سياسيين" و موظفين سامين و تجار و فاعلين محليين.

فهل يعي هؤلاء فعلا أنهم يلعبون بالنار و يستهترون بالمصالح العليا للوطن؟