عن المآخذ اللغوية على الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا (الحلقة الأولى )

خميس, 04/05/2017 - 01:21

نوافذ (نواكشوط ) ــ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله

تكلمت فى برنامج زمن الفتوة الذى أعدته قناة شنقيطِى ـ (صح) ـ عن الجد الشيخ سيدى محمد

ابن الشيخ سيدى ـ رحمهما الله تعلى ـ ، فألقيت الضوء على جوانب من حياته، وعلمه وأدبه وشعره، ودعوته إلى الجهاد والإصلاح السياسىّ والاجتماعىّ، وعن رؤيته التجديدية فى مضمار الشعر، وإشكالية الإبداع...إلخ. واستغرق اللقاء المسجل اثنتين وأربعين دقيقة.

لكن لم يذع منها فى اللقاء المذكور إلا نتف يسيرة مقطعة فى تسع دقائق.

ومما أذيع منها كلمة عن المآخذ اللغوية التى أخذت عليه، وكنت قد كتبت عنها نبذة فى تقديمى للديوان، فرأيت تعميما للفائدة، أن أثبتها فى صفحتى هذه، على شكل حلقات. والله الموفق والهادى إلى الصواب.

الحلقة الأولى:

أخَذ عليه بعض معاصريه

ــ تثنيته لطرْف العين، فى قوله:

ولم يسحر فؤادى قطُّ طرفٌ / سوى طرْفين فيها ساحرين

قالوا: الطرْف مصدر، والمصدر لا يثنّى ولا يجمع. وقد جاء مفردا فى القرآن الكريم، كقوله تعلى: (لا يرتد إليهم طرفهم)، وقوله عز وجل: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب)، وقولِه سبحانه: (ينظرون من طرْف خفىّ). قالوا: لو كان يجمع لجمع فى هذه الآيات، فقيل: لا ترتد إليهم أطرافهم...إلخ.

والجواب أن ما قالوه من كون الطرف فى الأصل مصدرا، وكونِ الأصل فى المصدر أنه لا يثنى ولا يجمع فصحيح، فى الجملة؛ وأما أنه يلزم ـ بناء على ذلك ـ إفراد الطرف وجوبا فى مثل تراكيب الآيات المذكورة فغير صحيح، لما ستعلمه بعدُ إن شاء الله تعلى.

نعم. الطرف ـ فى الأصل ـ مصدر طرَفت العين تطرِف من باب ضرب، لكن العرب أطلقت الطرف ـ توسعا ـ على الجفن، لأنه آلة الطرْف، كما أطلقته على العين، وعلى النظر، وعلى البصر، فساغ لذلك جمعه وتثنيته، وبذلك نطقت العرب.

فقد فات من أنكروا تثنيةَ الطرْف قولُ الطِّرِمّاح بن حكيم الطائىّ:

"ألا أيها الليل الطويل ألا اَصْبِحِ/ ببَمٍّ، وما الإصباح فيك بــــــــــــأروحِ

على أنّ للعينين فى الصبح راحة / بِطرْحِهما طرْفيهما كلَّ مَطـــرَحِ".

وبمّ: موضع بكرمان، من أرض فارس.

انظر: (ديوان الطرماح: 1/ 30، والأغانىّ: 12/43، والصناعتين لأبى هلال العسكرىّ: 1/274، وسمط اللآلى بشرح أمالى القالى لأبى عبيد البكرىّ الأندلسىّ: 1/220)، وخزانة الأدب للبغدادىّ: (2/327 ــ 328)، وغيرَها.

وربما رُوى هذان البيتان فى بعض هذه المصادر وغيرها بروايات متقاربة، ولكنها جميعا متفقة على موضع الاستشهاد. ومن تلك الروايات:

"أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ، أَلاَ اَصْبِحِ/ بصبح، ومَا الإصْباحُ منكَ بِــأَرْوَحِ

بلى إن لِلْعَيْنَينْ فى الليل راحَةً/ بِطَرْحِهِما طَرْفَيْهِما كُلَّ مَطْــــــــرَحِ" .

وفى الأغانىّ: "هو الطِّرِمَّاح بن حَكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة..."، ثم ساق نسبه إلى ثُعَل بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ، وذكر أنه كان يلقب الطرّاح لقوله: ... وأنشد البيتين.

ثم قال: "والطرِمّاح من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم، ومنشؤه بالشام، وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشام، واعتقد مذهب الشراة الأزارقة". اهـ (12/43 ـ 44).

ــ وفاتهم أيضا قول عمرَ بن أبى ربيعة الشاعر المخزومىّ القرشىّ الغزِل المعروف:

"ولها عينان فى طرْفَـيْهِما/ حَوَرٌ منها وفى الجِيد غَيَدْ".

وهو من قطعته الرمَلية المشهورة التى أولها:

ليت هندا أنجزتنا ما تعِد/ وشفت أنفسَنا مما تجِدْ

انظر ديوانه: 146، طبع دار السعادة، مصر، 6من ذى القعدة 1330هـ، أى منذ قرن وثمان سنين إلا أشهرا.

وانظر: طبعة دار القلم ببيروت، ص54، وقد اعتمد أصحابها على مخطوطات الديوان فى دار الكتب المصرية، وعلى طبعات الديوان القديمة والحديثة نسبيا. وهى طبعة ليبسك سنة 1909م، والميمنية سنة 1311هـ، ودار السعادة بمصر1330هـ ، وبيروت سنة 1934م، والنسخة التى حققها العلامة محمد محيى الدين عبد الحميد سنة 1960م.

وانظر طبعة دار الكتاب العربىّ، بيروت 1416هـ ـ 1996م/ط2 / تحقيق الدكتور فايز محمد ــ (ص 106 ).

فالبيت موضعُ الاستشهاد موجود فى الطبعات الثلاث المحال إليها هنا بالصفحة والجزء.

ولا تغفلْ عن اعتماد دار القلم على الأصول الموثوق بها، المذكورة أعلاه، مخطوطِها ومطبوعها.

وقد وُلد عمر بن أبى ربيعة ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجة سنة 23هـ ، وهى الليلة التى توفى فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فسُمّى به.

ــ وفاتهم أيضا ما أنشده الزمخشرىّ فى معجمه اللغوىّ الموسوم بأساس البلاغة فى (مادة برِم):

" يُخبِّرُ طرْفانا بما فى قلوبنا/ إذا برِمَت بالمنطِق الشفَتانِ".

وقد نسب الزمخشرىّ نفسُه هذا البيت إلى المخبل القيسىّ، فى كتابه: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار: (2/141).

نعم. أورده برواية مختلفة قليلا عما هنا:

(يبيّن طرْفانا الذى فى نفسونا/ إذا استعجَمت بالمنطق الشفتان).

ولكن موضع الاستشهاد من البيت بقى كما هو، لم يغيره اختلاف الروايتين، كما ترى. وذلك هو المطلوب.

والمخبل القيسىّ هذا هو كعب بن مالك؛ ويقال: هو كعب بن عبد الله، من بنى لأى بن شمّاس بن أنف الناقة، من أهل الحجاز؛ انظر الأغانىّ: (20/281 ـــ 285)، ومصارع العشاق، لابن السراج البغدادىّ: (2/140)، والتذكرة الحمدونية، لبهاء الدين أبى المعالى محممد بن الحسن ابن حمدون البغدادىّ : (6/154)، وتاريخ دمشق لابن عساكر: (50/133 ـــ 139).

وفى هذا الأخير: "كعب بن عبد الله، ويقال: ابن مالك القيسىّ المعروف بالمخبّل، شاعر من أهل الحجاز مشهورٌ، وقع إلى الشام...". (50/133).

ثم أورد قصته، وشعره المذكور، وضِمْنَه البيتُ موضعُ الاستشهاد. ثم قال فى آخر ترجمته: "وقيل إن بعض هذا الشعر لابن الدمينة الخثعمىّ".

وعزا الخالديان فى حماستهما البيت أيضا لابن الدمينة الخثعمىّ، وهذه الحماسة موضوعة لأشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين.

والبيت فيها مع بيتين آخرين، ويحسن إيرادهما فى هذا المقام:

"أيا كبِدَيْنا أجْمِلا قد وَجدتُما/ بأهلِ الحِمَى ما لم تجدْ كبِدانِ

إذا كــبِدانا خافَتا صرفَ نيَّةٍ/ وعاجلَ بينٍ ظلَّتا تجِبــــــــــانِ

يخبِّرُ طَرفانا بما فى قلوبنـــا/ إذا استَعجمتْ بالمنطقِ الشَّفتانِ".

 

وانظر كتاب الأغانىّ، ففيه قصة المخبل القيسىّ بتفاصيلها، وقطعته الشعرية كاملة، ومنها البيت المستشهد به هنا، إلا أن أبا الفرَج ذكر أيضا أن المفضل بن سلمة، وأبا طالب بنَ أبى

طاهر يرويانها لابن الدمينة. (20/284). وهو موافق لما فى كتاب الخالديين.

وسبب الاختلاف فى النسبة هو أن لكل من الشاعريْن قصيدة توافق الأخرى فى البحر والروىّ والغرض، فحدَث بين بعض أبياتهما تداخل عند الرواة؛

وربما تداخلت بعض أبيات هاتين القصيدتين أيضا مع ثالثة مشهورة لعروة بن حزام.

وهو أمر عادىّ، كثير الوقوع، وخصوصا فى أشعار الغزل والغرام لذلك العهد؛ يعرف ذلك جيدًا أهل الاختصاص.

وابن الدمينة شاعر أموىّ مشهور رقيق الشعر، عذب الألفاظ، وأكثر شعره فى الحب والشكوى. وقد قتِل غِيلة بعد 130هـ، وهو عائد من الحج، بتبالة، قرب بِيشة.

والدمينة أمه، وهى بنت حذيفة السلولية، واسم ابن الدمينة: عبد الله بن عبيد الله أحد

بنى عامر بن تيم الله بن مبشر، ينتهى نسبه إلى خثعم بن أنمار ابن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت ابن مالك.

وقيل إنه من ربيعة بن نزار... ". انظر الأغانىّ، وقد ذكر طرَفا من حياته وأخباره: (15/ 144).

وفى حاشيةالبغدادىّ على شرح ابن هشام لقصيدة (بانت سعاد): "عبد الله ابن الدمينة شاعر إسلامىّ، له غزل رقيق، كان الناس فى الصدر الأول يُغنّون به، ويستحْلون شعره". اهـ (1/155).

وبما أنه من عصور الاحتجاح ـ بداهة ـ كالمذكورِين قبله ـ فقد استشهد النحاة واللغويون بشعره، كما فى: سرّ صناعة الإعراب لابن جنّى، والإنصاف فى مسائل الخلاف لأبى البركات الأنبارىّ، وشرح الكافية الشافية لابن مالك، وأوضح المسالك لابن هشام، وتهذيب الأزهرىّ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، وغريب الحديث للخطابىّ، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيدَهْ، والصحاح للجوهرىّ، والزاهر لأبى بكر الأنبارىّ، والأساس، والفائق، وهما معا للزمخشرىّ، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزَّبِيدىّ... وغيرها من دواوين العربية المشهورة.

وبغض النظر عن كون هذا البيت للمخبل القيسىّ، أو لابن الدمينة، فالمقطوع به أنه شاهد معتدّ به إجماعا عند أهل اللسان قاطبة؛ فكونه لهذا أو لذاك لا يغير من واقع الأمر شيئا.

وبعد، فالخلاف فى الطرْف ـ هل يثنى ويجمع أو لا؟ ـ خلاف لغوىّ قديم، فممن ذهب إلى جمعه ابن قتيبة فى غريب الحديث، وحكاه أبو البقاء العكبرىّ فى كتابه: (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات فى جميع القرآن: (2/70)..

وقال مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادىّ، فى القاموس المحيط: "الطرف: العين، لا يجمع، لأنه فى الأصل مصدر، أو اسم جامع للبصر، لا يثنى ولا يجمع، وقيل أطراف". (طرف). فحكى الجمع.

وذهب إلى جواز جمعه وتثنيته أيضا بعض العلماء المتأخرين، كما سيأتى، إن شاء الله تعلى.

وممن ذهب إلى المنع الأزهرىّ والزمخشرىّ، ونسبه هذا الأخيرُ إلى الخليل.

فقد روى ابن قتيبة فى الكتاب المذكور قول أم سلمة رضى الله عنها: "حُمَاديَات النساء غضُّ الأَطراف، وخفَرُ الأعراض".

قال: "قَوْلها: حماديات النِّسَاء: هُوَ جمع حُمادَى. يُقَال: قصاراك أن تفعل ذَاك، وحماداك؛ كَأَنَّك تَقول: جهدك وغايتك. غض الْأَطْرَاف يَعْنِى: جمع طرْف الْعين.

وخفر الإعراض: الخفر: الْحيَاء. والإعراض هُوَ: أَن يُعرِضن عَن كل مَا كُره لَهُنَّ أَن ينظرن إليه. أَى: لَا يلتفتن نَحوه، من قَوْلك: أَعرَضت عَن فلَان، فَأَنا عَنهُ معرض: إذا لم ألتفت إليه.

وإن كَانَت الرِّوَايَة: الْأَعْرَاض ـ بِفَتْح الْهمزَة ـ فإنه جمع عِرْض، وَهُوَ الْجَسَد". اهـ (2/490).

فاعترض الزمخشرىّ زاعما أنه لم يرد به سماع، وأنه كذلك قال الخليل.

فقد قال فى الفائق:

"غض الْأَطْرَاف: أوردهُ القتيبىّ هَكَذَا، وَفسّر الْأَطْرَاف بِجمع طرف، وَهُوَ الْعين. وَيدْفَع ذَلِك أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَن الْأَطْرَاف فِى جمع طرْف لم يرد بِهِ سَماع. بل ورد بردِّه، وَهُوَ قَول الْخَلِيل أَيْضا أَن الطّرف لَا يثني وَلَا يجمع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مصدر طرَف: إِذا حرَّك جفونه فِى النّظر.

وَالثَّانِى: أَنه غير مُطَابق لخفر الْأَعْرَاض. وَلَا أكاد أَشك أَنه تَصْحِيف. وَالصَّوَاب: غض الإطراق وخفر الْأَعْرَاض. وَالْمعْنَى أَن يغضضن من أبصارهن مطرِقات أَى راميات بأبصارهن إِلَى الأَرْض، ويتخفَّرْن من السوء معرضاتٍ عَنهُ". (2/170).

وممن نص قبله على المنع الأزهرىّ أيضا. لكن ينبغى أن يقال إنهما غفلا عن هذه الشواهد الشعرية فى تثنية الطرف، لأنه يبعد عدم اطلاعهما عليها، ولا سيّما الزمخشرىّ الذى أورد أحدها، فهو وإن ادعى أن لفظة الأطراف (جمع طرْف)، تصَحفَتْ عن الإطراق، فإنه أورد شاهدا شعريا لتثنية الطرف فى كتابين من أهم كتبه اللغوية والأدبية، دون تعقُّب أو اعتراض!

وأما الأزهرىّ، فقد رواه: "غض الطرْف"، بالإفراد، وهذا مما قد يعتذر به عنه، بخصوص هذا الشاهد. لكن من العجيب أن تكون كل تلك الشواهد الشعرية قد عزَبت عن حفظه وعلمه؟! وسبحان من لا يغفُل ولا ينسى.

ولعل الذين جاءوا مِن بعدهما، ووافقوهما فى هذا القول، إنما قلدوهما. ومن أبرزهم ابنُ الأثير الذى نقل كلام الزمخشرىّ، وابنُ منظور الذى جعل تهذيبَ الأزهرىّ ونهايةَ ابن الأثير من بين أهم مصادره الخمسة التى بنَى عليها معجمه الكبير لسانَ العرب، كما هو معلوم. والثلاثة الباقية هى: الصحاح وحواشيه، والجمهرة، والمحكم.

وأيضا مما يعكر على إضافة الغض للإطراق ـ بالقاف ـ أمور:

أحدها: أن مادة الغض تضاف ـ غالبا ـ إلى الطرْف، بالفاء.

ومنه قول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير / فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقول كعب بن زهير:

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا / إلا أغن غضيض الطرف مكحول

إلخ... وهو كثير جدا.

ويشهد له ما فى التنزيل من أمر الرجال والنساء بغض الأبصار، فى سورة النور.

وقد تضاف إلى الصوت أيضا، كما فى قوله تعلى: (واغضض من صوتك). وربما وقعت الإضافة إلى غير ما ذُكر مجازا.

ثانيها: أن فى إضافة الغض إلى الإطراق إضافة الشىء إلى لازمه، وهو قريب من تحصيل الحاصل.

ثالثها: استبعاد التصحيف، فهو مجرد دعوى.

رابعا: أن حكاية العكبرىّ لورود الطرف مجموعا تعزز رواية ابن قتيبة، فيبعد احتمال التصحيف باتفاقهما.

خامسا: أن المثبِت مقدم على النافى. وعدم العلم ليس علما بالعدم.

سادسا: أن الزمخشرىّ الذى أنكر تثنية الطرْف وجمْعَه فى كتابه: (الفائق) هو نفسُه الذى أنشد، فى معجمه: أساس البلاغة، وفى كتابه: ربيع الأبرار ـــ قول المخبل القيسىّ:

يخبّر طرْفانا بما فى قلوبنا/ إذا برِمت بالمنطق الشفتان!

ولم يتعرض له بنقد أو تخطئة، كما تقدم. وفى هذا حجة عليه.

سابعا: أن الأثر المذكور ـ وإن تطرق إليه احتمال الضعف ـ وذلك ما لا نستبعده مبدئيا ـ لم يتعرض له أحد من المذكورين من هذه الحيثية، بل ذهبوا إما إلى دعوى التصحيف، أو إلى التأويل.

وقول العكبرىّ إن الطرف ورد مجموعا يحتمل أن مراده ما أورده ابن قتيبة، ويحتمل أنه يقصد نصا آخر لم أطلع عليه. والله أعلم.

وممن سلك مسلك التأويل فى هذا الأثر العلامة أبو الفتح ضياء الدين ابن الأثير، فقد ذكر فى كتابه (النهاية فى غريب الحديث والأثر) ـ ووافقه آخرون ـ أن المراد بالأطراف: الأيدى والأرجل، فهى على هذا جمع طرَف بفتح الراء، لا بسكونها. فيختلف اللفظ والمعنى، ويصبح المراد ـ على هذا ـ : لزوم البيوت.

قال فى النهاية: "وَفِى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: قَالَتْ لِعَائِشَةَ: حُمَادَياتُ النِّسَاءِ غَضُّ الأَطْرَاف، أرادَت قَبْضَ الْيَدِ والرِّجل عَنِ الحَرَكَة والَّسير. يَعْنِى تَسْكين الأَطْرَاف، وَهِىَ الأعْضَاء". (3/120).

ولكن إضافة الغض إلى هذه الأعضاء ليست مشهورة، على أقل تقدير.

ثم إن الكلام فى الطرْف، بسكون الفاء، لا بفتحها، لاختلاف المعنيين، ولو كان المعنى فى هذا الأثر على ما ادعاه ابن الأثير لما ذهب الزمخشرىّ إلى ما ذهب إليه من ادعاء التصحيف، ونفى السماع، إنكارا لجمع طرْف العين. ولما احتاج إلى كل ما قاله، ولما روى الأزهرىّ اللفظ بالإفراد، ولماَ خفى على ابن قتيبة، حتى قال إنه جمع لطرْف العين الذى يُحمد غضه عادة. فاعرفه.

لكن لعل ما دعا ابنَ الأثير ومن نحا نحوه إلى هذه التأويلات، هو تقليد من قال إن الطرْف لا يثنى، ولا يجمع. والله أعلم.

وقال العكبرىّ: (لا يرتد إليهم "طرفهم: مصدر فى الأصل بمعنى الفاعل، لأنه يقال: ماطرفت عينه، ولم يبق عين تطرف، وقد جاء مجموعا". (2/70 ـ دار الكتب العلمية، 1399هـ).

وقال الإمام محمد بن جرير الطبرىّ فى تفسيره:

"قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) فَوَحَّدَ، وَقَالَ: (وَأَبْصَارِهِمْ) فَجَمَعَ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَبَرَ فِى السَّمْعِ خَبَرٌ عَنْ سَمْعِ جَمَاعَةٍ، كَمَا الْخَبَرُ فِى الْأَبْصَارِ خَبَرٌ عَنْ أَبْصَارِ جَمَاعَةٍ؟

قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّى الْكُوفَةِ: وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمَصْدَرَ، وَقَصَدَ بِهِ الْخَرْقَ، وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْأَعْيُنَ.

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّى الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ السَّمْعَ وَإِنْ كَانَ فِى لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ، وَيَحْتَجُّ فِى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ): يُرِيدُ لَا تَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ أَطْرَافُهُمْ، وَبِقَوْلِهِ: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُر) يُرَادُ بِهِ أَدْبَارَهُمْ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عِنْدِى لِأَنَّ فِى الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَأَدَاءُ مَعْنَى الْوَاحِدِ مِنَ السَّمْعِ عَنْ مَعْنَى جَمَاعَةٍ مُغْنِيًا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَلَوْ فَعَلَ بِالْبَصَرِ نَظِيرَ الَّذِى فَعَلَ بِالسَّمْعِ، أَوْ فَعَلَ بِالسَّمْعِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالْأَبْصَارِ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ، كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ

فَوَحَّدَ الْبَطْنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبُطُونُ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّة".اهـ (1/382، دار هجر، 1422هـ).

ويفهم من كلامه هذا جواز جمع الطرف قياسا على السمع، بل وجدناه فى هذا النص جمع الطرف على أطراف. وعلى هذا لا يبعد الزعم بأنه كان يراه صراحة. والله أعلم.

وقد لخص الشيخ محمد مرتضى الزَّبِيدىّ فى تاج العروس شرحِ القاموس، أقوال اللغويين فى هذه المسألة، فنذكر طرَفا منها، قال رحمه الله تعلى:

"الطَّرْفُ: العَيْنُ، لَا يُجْمَعُ لأَنَّه ـ فِى الأَصلِ ـ مَصْدَرٌ، فيكونُ واحِداً، وبكون الأَصلِ مَصْدَرا فيكونُ واحِداً، ويكونُ جمَاعَة، قَالَ الله تَعَلَى: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهمُ طَرْفُهُم)، كَمَا فِى الصِّحاح.

أَو هُوَ: اسمٌ جامِعٌ للبَصَرِ، قَالَه ابنُ عَبَّادٍ، وَزَاد الزَّمَخْشَرِىُّ: لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، لأَنَّه مصدَرٌ، وَلَو جُمِعَ لم يُسْمَعْ فِى جَمْعِهِ أَطْراف.

وقالَ شيخُنا عندَ قولِه: (لَا يُجْمَع): قلتُ: ظاهِرُه، بلْ صَرِيحُه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَمْعُه، ولَيْسَ كَذَلِك، بل مُرادُهم: أَنَّه لَا يُجْمَعُ وُجوباً، كَمَا فِى حاشيةِ البَغْدادِىِّ على شرح بانَتْ سُعاد. وَبعد خُرُوجه عَن المَصْدَرِيَّةِ، وصَيْرُورَتِه اسْما من الأَسْماءِ، لَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ المَصْدَرِيَّةِ، ولاسِيَّما وَلم يقْصِدْ بِهِ الوَصْف، بل جَعَله اسْماً، كَمَا هُوَ ظاهِرٌ ...". اهـ كلامه: (طرف).

قلت: وقد لخص الشيخ كلام البغدادىّ تلخيصا شديدا، وسننقل منه ما يتعلق بموضع النزاع فى هذا المقام، حتى تتضح الصورة أكثر.

قال العلامة عبد القادر بن عمر البغدادىّ فى حاشيته على شرح (بانت سعاد) لابن هشام عند قوله عن الطرف وأصلِ مصدريته: (ولهذا لا يجمع): ما لفظه:

"ظاهره. لا يجوز جمعه، وليس كذلك، بل المراد لا يجمع وجوبا. بل يجوز إفراده وتثنيته وجمعه عند إطلاقه على أكثر من الواحد.

وقال الرضىّ، فى آخر باب الجمع من شرح الكافية: " وأما الوصف الذى كان فى الأصل مصدرا نحو: صوم، وغَور، فيجوز أن يعتبر الأصل، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. قال تعلى: (حديثُ ضيف إبراهيم المكرَمين)، وقال: (نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب).

ويجوز اعتبار الحال المنتقَل إليها، فيثنى ويجمع، فيقال: رجلان عدلان، ورجال عدول". اهـ موضع الاستشهاد من كلامه. (1/386 ـ 387، ط: الألمانية، 1400هـ ـ 1980م).

وهو صريح فى جواز تثنية طرف العين وجمعه.

لكنه قال رحمه الله تعلى: "فإن قلتَ: هل جاء جمع الطرف أو تثنيتُه؟

قلت: لم ينقل ذلك أحد، ولكن جائز، كما فى نظائره: ضيوفٍ، وعدول". اهـ (1/387).

فهو يجيزه قياسا، وينكره سماعا. لكنه رحمه الله غلط فى ذلك، لما قدمنا من الشواهد الصحيحة الصريحة من تكلم العرب به. ولعله اغترّ بإنكار الزمخشرىّ، فقلده دون بحث ـ على خلاف عادته فى التحرير والتحقيق. وقد سبق أن الزمخشرىّ نفسَه محجوج فى نفى السماع بالشاهد الذى أورده فى معجمه.

ومن العجيب أيضا أن البغدادىّ الذى لا يفتأ يتحفنا، من خلال خزانته ــ وهى من أعظم الموسوعات النحوية والأدبية ـ بالأشعار والأخبار والطرائف والشواهد والأنساب والتحقيقات اللغوية والعلمية المختلفة، وينقل من الأغانىّ وغيرها من موسوعات الأدب القديمة، وكذلك يفعل فى أحسن كتبه على الإطلاق ـ حاشيةِ شرح بانت سعاد ــ قد غفل عن هذه الشواهد المشهورة المبثوثة فى الدواوين، وبعض المعاجم، وكتب الأدب والأخبار!

وقد رأيت له رحمه الله ـ على تبحره وموسوعيته، وغزارة مصادره ـ ما عجبت منه أشد العجب، وهو قوله عن كلمة مشهورة فى ديوان الشماخ بن ضرار الغطفانىّ رضى الله عنه: "والحديق لم يفسره شارح ديوانه، ولم أعرف ما المراد منه"! (2/386).

وذلك فى قول الشماخ:

كأنى كسوت الرحل أحقبَ سَهْوَقا/ أطاع له فى رامَتيْنِ حديقُ

قلت: والحديق إما جمع حديقة، كسفينة وسفين، وإما فعيل بمعنى فاعل من قولهم: حَدَقوا به: إذا أطافوا به. ومثله: أحدقوا، واحدَوْدقُوا، فيكون الحديق ـ على هذاـ ما أحدق بالموضع المذكور من المراعى والبساتين. ومنه: الحديقة، وهى: الروضة ذات الشجر، أو البستانُ من النخل والشجر، أو كل ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل. كما فى القاموس.

وتجمع على حدائق، ومنه قوله تعلى: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة)، وقولُه سبحانه: (وحدائقَ غُلبا).

وفى معلقة عنترة بن شداد:

جادت عليها كل عين ثرة/ فتركن كل حديقة كالدرهم

فقول الشماخ: أطاع له من رامتين حديق: معناه اتسع له من هذا الموضع المرعى المحدِق، وأمكنه أن يرعاه، ويرتعَ فيه.

ففى تهذيب اللغة للأزهرىّ: "عَن ابْن السّكيت: يُقَال: قد أطَاع لَهُ المَرْتع إِذا اتّسع لَهُ المرتع، وَأمكنهُ من الرّعْى. وَقد يُقَال فِى هَذَا الْموضع: طَاع...".اهـ (طوع).

قلت: ومنه قول النابغة الذبيانىّ:

كَأَنَّما الرَّحْلُ مِنْهَا فَوْقَ ذِى جُدَدٍ/ ذَبِّ الرِّيادِ إلى الأشْباحِ نَظَّــــــــــــــــارِ

مُطَرَّد أُفرِدَتْ عَنْهُ حَلاَئِلُـــــــهُ/ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ أَوْ مِنْ وَحْشِ ذى قارِ

مُجَرَّس وَحَد جأْب أَطاعَ لَهُ/ نَباتُ غَيْثٍ مِنَ الوَسْمىِّ مِبْكَــــــــــــــارِ

وقول ربيعة بن مقروم:

كأَنَّ الرَّحْلَ منهُ فَوْق جَأْبٍ/ أَطَاعَ لهُ بِمَعْقُلَةَ التلاَعُ

ونحوه قول زهير:

كأنّ الرحل منها فوق صَعْل/ من الظلمان جُؤجُؤُه هواء

أسكّ مصَلّم الأذُنين أجْنَى/ له بالسِّىّ تَنــُّـــــــــــــومٌ وآء

فقد خفى على البغدادىّ، رحمه الله تعلى، المراد من الحديق مع شدة وضوحها! وقد اعترف بذلك. ولا ينقص ذلك من علمه وفضله، بل هو أعظم دليل على أمانته وبعده عن التكلف. وقد رأيت فى أشعار المفضليات والأصمعيات كلمات كثيرة لا تجدها فى المعاجم، وكثيرا ما ينص محققو المدونتين على ذلك.

***

وهنالك منزع آخر: وهو أن الطرف ـ وإن كان فى الأصل مصدرا، بمعنى تحريك الأجفان، أو إطباق الجفن على الآخر ـ بعبارة الجوهرىّ ـ فإن العرب أطلقته أيضا على الجفن نفسه، وعلى البصر، وعلى العين، وعلى النظر، كما فى المعاجم اللغوية. بل قال بعض اللغويين، بعد ذكرهم لبعض هذه المعانى: هو "اسم جامع للبصر"، كما تقدم. وسياقات كلام العرب هى التى تحدد المراد.

ففى لسان العرب:

"الطَّرْفُ: طرْفُ الْعَيْنِ. والطَّرْفُ: إطْباقُ الجَفْنِ عَلَى الجفْن. ابْنُ سِيدَهْ: طَرَفَ يَطْرِفُ طَرْفاً: لَحَظَ، وَقِيلَ: حَرَّكَ شُفْره، ونَظَرَ. والطَّرْفُ: تَحْرِيكُ الجُفُون فِي النَّظَرِ. يُقَالُ: شَخَصَ بصرُه فَمَا يَطْرِفُ. وطَرَفَ البصرُ نفسُه يَطْرِفُ، وطَرَفَه يَطرِفُه وطَرَّفَه كِلَاهُمَا إِذَا أَصاب طرْفَه، وَالِاسْمُ الطُّرْفَةُ. وَعَيْنٌ طَرِيفٌ: مَطْروفة. التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ: الطَّرْفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبَصَر..." (طرف).

وفى تفسير الطبرىّ: "وَقَوْلُهُ: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)، يَقُولُ: لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ ـ لشِدَّةِ النَّظَرِ ـ أَبْصَارُهُمْ" (13/710)، ففسر الطرف بالبصر.

ونحوه فى كثير من التفاسير.

وفى تفسير الماوردىّ، عند هذا الموضع:

"والطرف: هو النظر، وسميت العَيْن طرْفاً لأنه بها يكون. قال جميل:

وأَقْصرُ طَرْفى دُون جُمْل كرامةً ... لجُمْلٍ وللطرْفِ الذى أنا قاصِره". (3/141).

فأطلق الطرف على النظر.

وفى تفسير القرطبىّ عند هذه الآية أيضا:

"وَالطَّرْفُ الْعَيْنُ. قَالَ عَنْتَرَةُ:

وَأَغُضُّ طَرْفِى مَا بَدَتْ لِى جَارَتِي/ حَتَّى يُوَارِىَ جَارَتِى مَأْوَاهَا".

فأطلقه على العين.

وفسر أبو حيان فى البحر المحيط الطرف فى هذا الموضع أيضا بالعين، وأنشد بيت عنترة هذا، ثم قال:

"ويقال: طرَف الرجلُ: أطبق جفنه على الآخر ، وسُمّى الجفن طرْفاً لأنه يكون فيه ذلك". (5/419).

وقال تلميذه العلامة السمين الحلبىّ، فى عمدة الحفاظ فى تفسير أشرف الألفاظ:

"قوله تعلى: (قبل أن يرتدّ إليك طرفك): أى قبل أن يرتدّ إليك جفنك عند فتح عينك، يقال: طرَف يطرف: إذا فعل ذلك..." إلى أن قال: "والطرف: الجفن، وهو أيضا تحريك الجفن للنظر، إذ كان تحريك الجفن يلازمه الطرف". اهـ (2/393).

وذكر أبو السعود فى تفسيره من معانى الطرف أنه يطلق على: "نفس الجفن". (5/55).

وفى فتح القدير للشوكانىّ، عند آية النمل: "وقيل هو نفس الجفن". (4/139).

ولا أحد يفهم من قولهم: "طرْف كحيل": كحيل تحريك العينين، أو من قولهم: "غضيض الطرف": غضيض تحريكهما، أو "فى طرفها حور": فى تحريكهما حور. فالمصدر الدال على الحدث قد تنوسى فى هذه الإطلاقات، وتمحض الاستعمال فيها، وفيما يشابهها، للجفن.

وانظر إلى كراع النمل على بن الحسن الهُنائىّ الأزدىّ المتوفى سنة 310هـ ، حيث قال فى مُنَجَّدِه ـ وهو أول معجم شامل فى المشترك اللفظىّ ـ : "والغَضِيض الطَّرْفِ: المُسْتَرْخِي الأجفان". (277).

ومِن تمحُّلِ بعض من قلد الزمخشرىّ أن قالوا فى تفسير قوله تعلى: (لا يرتد إليهم طرفهم): لا يرتد إليهم تحريك أبصارهم. وعبارة الزمخشرىّ: "لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى: لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان".

وهذا الذى قاله ـ وإن كان هو أصل الاستعمال ـ فالتكلف فيه واضح.

لكنه حكى أيضا وجها آخر فسّر فيه الطرْف بالنظر، فقال: "أوْ: لا يرجع إليهم نظرهم..."اهـ (2/528).

وإذا كانت العرب قد أطلقت الطرف على الجفن اتساعا، وصار الطرف فى كثير من كلامهم مرادا به الجفن نفسه، أو العين، أو البصر ـ كما رأيت ـ فلا ينبغى الجمود على تلك الكلمة التى قالها الأزهرىّ، ورددها من بعده لغويون ومفسرون ـ تقليدا ـ أعنى منع جمعه وتثنيته مراعاة لأصل المصدرية. وإلا فيلزم إنكار جميع ما كان هكذا، وطردُ القاعدة فى الباب كله.

فإن قال قائل: ما قبلنا جمعه وتثنيته ورد به سماع. قلنا: فكذلك هاهنا أيضا، ولا فرق.

 

***

وصفوة القول: أن الطرف ثبتت تثنيته عن ثلاثة من شعراء العرب. وإذا ورد الدليل الصحيح من كلامهم، فهو الفيصل عند النزاع، فى هذا الباب؛

وأنه ورد مجموعا فى كلام بعض السلف أيضا؛ على ما جاء فى الأثر المذكور أعلاه؛

وأنه قد ذهب إلى جواز جمعه وتثنيته من علماء العربية: الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَرىّ، النحوىّ اللغوىّ الكاتب، المتوفى سنة 276هـ ، ووافقه العلامة النحوىّ أبو البقاء العكبرىّ فى كونه ورد مجموعا، وكذا صاحب القاموس، وأجاز ذلك العلامة النحوىّ المحقق الأديب الكبير عبد القادر بن عمر البغدادىّ، فى حاشيته على شرح ابن هشام لقصيدة بانت سعاد، والإِمَام اللغوىّ أبو عبد الله مُحَمَّد ابن الطّيِّب بن مُحَمَّد الفاسىّ، شيخ الزَّبِيدىّ صاحب تاج العروس؛ وهو ظاهر مذهب الزَّبِيدىّ نفسه؛

وقد وجدنا الطرف مجموعا فى كلام الإمام الطبرىّ، ولم نجد من تعقبه؛

وأن الزمخشرىّ محجوج بما أورده فى أساسه وربيعه، فضلا عن الشواهد الأخرى؛

وأن الأزهرىّ، مِن قبله، ربما يكون قد ذهب إلى ما ذهب إليه ذهولا عن هذه الشواهد ـ فيما نرى ـ ، وأن أكثر القائلين بقوله، ممن جاءوا بعده، إنما جروا على تقليده، أو تقليد الزمخشرىّ، فى ذلك.

فصح يقينا بكل ما ذكرناه جواز تثنية الطرف وجمعه فى كلام العرب. وهو المطلوب.

والغريب حقا هو غفلة منكرى الجمع والتثنية عن هذه الشواهد المشهورة التى يمرون عليها مصبحين، وبالليل! ولكنه التقليد الذى دفع الأكثرين إلى مسايرة من أنكر ورود السماع. والله المستعان.

ومن المعلوم ـ ضرورة ـ أن الشعراء الثلاثة الذين استشهدنا بكلامهم على تثنية الطرف، يرجعون جميعا إلى عصور الاحتجاج، فيُستشهد بشعرهم فى جميع الأبواب، إذ كان آخرَ من يُحتج بكلامه من الشعراء ـ فى قول الأصمعىّ وغيره ـ هو إبراهيمُ بن هَرْمة القرشىّ الذى شهد الدولتين الأموية والعباسية. وبالله التوفيق.

العلامة إبراهيم ولد يوسف ولد الشيخ سيديا 

يمكنكم متابعة هذه الآخذ في فيديو للشيخ في الفيديو المرفق